إن شواهد التاريخ حاضرة معنا في ماضيه وحاضره، ووحده المؤرخ من يصنع الفرق وينتزع من حاضره ليحلّ في شواهد التاريخ أو يعمد إلى إحياء الماضي في شواهد حاضره، قد تبدو عملية جامدة ومعقدة، تقودنا إلى تساؤلات لا تنقضي وتجعلنا نخوض من خلالها صراع الوعي بالتاريخ بين النقد والتفكيك والتركيب والتأليف، في محاولة منا لإنقاذ الحقيقية العلمية ضمن المسلمات النسبية فهل يصح ذلك؟ فنجاوز المنطق ونعمد إلى تحليل ما يستحضره المؤرخ في ذهنه، ونبحث في تساؤلاتنا عن علاقة التاريخ بالحقيقة رغم معرفتنا أنه لا يقودنا إلا للبديهيات. فكيف يحافظ التاريخاني على الحقيقة في إطار تعريفات التاريخ؟ إن التفكير في نطاق التاريخ والتطوير بشكل عام يُعّد ثورة فكرية فكيف لو كانت نزعة فكرية ووجودية؟ حيث الواقع ينفي الحدث من خصوصيته، وإن الزمان يتحكم في كل التأويلات فيصبح من المستحيل الانفلات من المتغيرات إلى الثابت، ومن هنا انبثق الصراع الفكري في التاريخ وظهر الفرق بين تاريخ المفاهيم وأركيولوجيا المفاهيم، فما هي الثورة التاريخانية؟ وما الفرق بين التاريخ والتاريخانية؟ وهل للمرء أن يكون مؤرخًا دون أن يكون ذا نزعة تاريخانية؟ أشار عبدالله العروي في كتابة (مفهوم التاريخ) إلى إيضاح دلالة الفرق بينهما في معادلة ذات منهجية واضحة حيث «إن التاريخية والتاريخانية شي آخر، الأولى طريق للبحث والثانية حتمية التطور، تنفي حرية الفرد، تتحاشى الأحكام الأخلاقية، وتدعو إلى الرضوخ والانقياد»، فهل يصح أن نلغي من سجل التاريخ فترات كاملة بدعوى أنها في نظرنا سخيفة أو جاهلة؟ وهو بذلك قادنا إلى تحرير تساؤلاتنا وتحليل تجهمنا تجاه خصوم الإصلاح، فهل التاريخ تاريخ في كل لحظة من لحظاته أم هو تاريخ في لحظة معينة واحدة؟ وكيف لمن اعتبر التاريخ قوة قاهرة تتحكم في مصير البشر عطله كمنهج بحثي. بدأت التاريخانية بالظهور كحركة فكرية ومنهج بحثي في القرن التاسع عشر، عندما أراد التاريخانيون أن يحظى التاريخ بنفس المكانة العالية للعلوم الطبيعية، حيث تكون له أهدافه وطرقه البحثية، ومعاييره المعرفية وهو مطلبهم الصريح بأن التاريخ يجب أن يحكم نفسه دون سلطة أي تدخل خارجي، وهو القابع في منظوره التقليدي المندمج لقرون عديدة في علم الكلام، فكان لا بد له أن يتحرر ليحقق ثورته، ورغم ذلك خرج لنا من هدّدوا بجعل التاريخ مجرد خادم للفلسفة وهم أصحاب الفلسفة الوضعية، فكان على التاريخانية أن تتصدى لمعركتها مع الميتافيزيقيا والفلسفة الوضعية. حيث أكد التاريخانيون أن كل ما يحدث في التاريخ يجب تفسيره داخل التاريخ وبواسطة مناهج وطرق تاريخية محددة، وهذا ما يفسر أن التاريخ والطبيعة ليسا كبعضهما عند التاريخيين، وأن الجانب العقلي والمادي لا يمكن الفصل بينهما، وأسسوا لنظرية أن كل ما في العالم الإنساني هو جزء من التاريخ، وأن الأفعال البشرية والقيم الإنسانية تأخذ محلها في الزمن والمكان بشكل أعمق. إن كل شيء في الحياة يتم فهمه في سياقه الاجتماعي الخاص، وإن ملامح النزعة التاريخية تتغير بتغير نقطة البدء وستختفي في التاريخ، فما الذي أدى إلى انهيار حركة ثقافية فكرية كالتاريخانية؟ تعددت الأسباب في ذلك منها ما يعود إلى تناقضاتها الداخلية كحركة فكرية وأزمتها في إيجاد معنى أو نظام للتطوير في التاريخ عندما ضاعت كل مقوماتها بعد الحرب الألمانية التي قضت على حياة جيل كامل فأفلست قضيتها الحقيقية، وأيضًا خاضت صراعها في مبادئها بين المعرفة الموضوعية في التاريخ والقوة التغيرية، ومن أسباب انهيارها ما قام به شوبنهاور ونيتشه عندما هاجما القيم والثقافة التي تقوم عليها واعترضا على اعتبار التاريخ (علماً)، وأكمل كارل لامبرجت في نقدها ونادى بضرورة أن التاريخ يجب أن يُوجد قوانين عامة (للسبب والنتيجة)، وقاد حملته ضد التاريخيين أمثال مانيك وبلو... فإذا كان بموتها تحقيق لهدفها فقد نجحت بجعل التاريخ علمًا ومادة أكاديمية؟! وغاية الأمر يجب أن يدرك الإنسان أن غاية التاريخ هي مواصلة البناء، وأن يشارك بوعيه في بناء التاريخ، لأنه سيرورة الإنسان كإنسان فيحول المكاسب الآنية إلى ثوابت تعمق الوعي.