اكتشاف قرية أثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر    الأردن: لن نسمح بمرور الصواريخ أو المسيرات عبر أجوائنا    رونالدو يعلق على تعادل النصر في ديربي الرياض    إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية    وسم تختتم مشاركتها في أبحاث وعلاج التصلب المتعدد MENACTRIMS بجدة    «الداخلية»: ضبط 21370 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.    بلدية محافظة البكيرية تنفذ فرضية ارتفاع منسوب المياه وتجمعات سطحية    الهلال يتفوق على سلسلة الأهلي بعد ديربي الرياض    حقيقة انتقال نيمار إلى إنتر ميامي    اتفاقية لخدمات النقل الجوي بين كوسوفا والمملكة لتسهيل نقل الحجاج والمعتمرين    السعودية تعرب عن قلقها إزاء استمرار القتال في السودان الشقيق وتصاعد أعمال العنف التي طالت المدنيين من نساء وأطفال    مرثية مشاري بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود    الشيف الباكستانية نشوى.. حكاية نكهات تتلاقى من كراتشي إلى الرياض    المملكة "برؤية طموحة".. جعلتها وجهة سياحية عالمية    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    معدل وفيات العاملين في السعودية.. ضمن الأدنى عالمياً    "الأرصاد": أمطار على منطقة المدينة المنورة    آلية جديدة لمراجعة أجور خدمات الأجرة عبر التطبيقات    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    انطلاق فعاليات "موسم التشجير السنوي 2024" ، تحت شعار "نزرعها لمستقبلنا"    هيئة الهلال الاحمر بالقصيم ترفع جاهزيتها استعداداً للحالة المطرية    جمعية البر بالجنينة في زيارة ل "بر أبها"    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    ضمك يتعادل إيجابياً مع الرياض في دوري روشن للمحترفين    تن هاج يشكر جماهير مانشستر يونايتد بعد إقالته    وقاء جازان ينفذ ورشة عمل عن تجربة المحاكاة في تفشي مرض حمى الوادي المتصدع    ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار سقف محطة قطار في صربيا إلى 14 قتيلاً    الشؤون الإسلامية في جازان تطلق مبادرة كسوة الشتاء    أروماتك تحتفل بزواج نجم الهلال "نيفيز" بالزي السعودي    تصعيد لفظي بين هاريس وترامب في الشوط الأخير من السباق للبيت الابيض    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    الحمد ل«عكاظ»: مدران وديمبلي مفتاحا فوز الاتفاق    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    مبدعون «في مهب رياح التواصل»    الطائرة الإغاثية السعودية السابعة عشرة تصل إلى لبنان    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    ما الأفضل للتحكم بالسكري    صيغة تواصل    هاتف ذكي يتوهج في الظلام    الدبلة وخاتم بروميثيوس    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    الأنساق التاريخية والثقافية    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    عن فخ نجومية المثقف    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا نؤرخ ؟ لماذا نؤرخ ؟ وكيف نؤرخ في زمن العولمة والاعلام ؟. وجيه كوثراني : لهذه الأسباب يستحيل على الباحث العربي أن يكون استراتيجياً
نشر في الحياة يوم 22 - 10 - 2001

مسيرته عمرها أكثر من ربع قرن. على عكس زملاء ورفاق له كثر، لم يتبدل، فكرياً كثيراً، خلال هذه المرحلة. تطور بالأحرى. وتطوره يمكن تتبعه في كتبه العديدة التي تتناول التاريخ العربي واللبناني المعاصر والحديث، والى حد ما تاريخ الأفكار. وجيه كوثراني، المؤلف اللبناني والأستاذ الجامعي، بعدما خاض الكتابة التاريخية زمناً، انكبّ أخيراً على تجربته فعالجها، في بعض دراسات كتابه "الذاكرة والتاريخ"، كما سبق له ان درس المدارس والتيارات التاريخية المعاصرة في كتابه "التاريخ ومدارسه في الغرب وعند العرب" الذي اعتبره جزءاً أول من كتاب شامل له يحمل عنوان "مدخل الى عالم التاريخ". بغية استيضاح وجيه كوثراني حول فكره ورؤيته للتاريخ، كان هذا الحوار.
كان السؤال الأول، بالطبع، حول مهنة المؤرخ ووظيفته، فأجاب كوثراني:
- لنميّز أولاً بين مهمة المؤرخ ومهمة الاخباري. هناك مؤرخون كتبوا التاريخ كتابة وصفية او حَدَثية او كرواية. وكتابة التاريخ على المستوى الروائي، تعج بها الأدبيات التراثية العربية. فهذا النوع من التأريخ تاريخ إخباري، وكلمة إخباري عرّفها التراث العربي لتحديد هذه المهمة، أي ان التاريخ هو نقل للأخبار، وتدوين لها في الزمن. وبهذا المعنى يكون التاريخ سرد الأخبار. وهناك على أية حال انسجام وتوافق بين مصطلح التأريخ باللغة العربية ووظيفة الأخبار. فإذا عدنا الى كلمة تأريخ في اللغة العربية، نجد في القواميس ان معنى التأريخ هو تحديد الوقت وليس تحليل الأحداث وفهم مسبباتها، كما شرح ذلك ابن خلدون لاحقاً، فظلّ علم التاريخ عند العرب يحمل هذا الفهم الأحادي للعلاقة مع الزمن التاريخي، أي سرد الأخبار وتوقيتها. والأخبار هي مجموعة سيَر وأحداث كبيرة، سواء كانت عن وقائع طبيعية كالزلازل والفيضانات والأمراض الوبائية او من أحداث وقعت فيها معارك فاصلة في التاريخ كانوا يسمّونها نوازل. كل هذه مواضيع دخلت في التراث العربي ضمن اطار علم التاريخ. وهناك لا شك مؤرخون كبار أمثال اليعقوبي والبلاذري والطبري والمسعودي سجلوا هذه الأخبار انطلاقاً من مفاهيم تنتمي الى زمنهم التاريخي وثقافتهم التاريخية. هذا التسجيل تراكم مع علوم أخرى طاولت الفقه والفلسفة والجغرافيا والعلوم الطبيعية الى ان تفاعلت هذه العلوم مع بعضها البعض، فأنتجت النظرة الجديدة الى التاريخ التي حملها ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي، أي ما يوازي القرن الثامن هجري.
يعني هذا انه كان هناك تراكم في الانتاج التاريخي، خلال ثمانية قرون. وهذا التراكم ولّد قفزة نوعية تمثلت بابن خلدون. فابن خلدون عندما يعرّف عن التاريخ بأن له ظاهراً وباطناً يقصد فعلاً ان ما كتبه المؤرخون السابقون، تاريخ ظاهر هو تاريخ الحدث او تاريخ الحادثة، وما يجب ان نفعله من الآن فصاعداً هو التأريخ الباطن اي تأريخ ما وراء الحدث، وما وراء الظاهرة التاريخية. فلا شك ان تعريف ابن خلدون كان تعريفاً متقدماً، لكنه غير مقطوع الصلة بالتراكم الذي حصل.
إذا انتقلنا الى الحضارة الغربية الحديثة حيث نشأ التاريخ تأسيساً على عصر الأنوار في القرن الثامن عشر ثم تأسيساً على القفزات العلمية التجريبية في القرن التاسع عشر، نجد أيضاً ان المسار متشابه. فالتأريخ في الغرب قبل القرن الثامن عشر وحتى قبل القرن التاسع عشر، كان نوعاً من "الاستوريوغرافيا" أي نوعاً من التدوين التاريخي، تدوين الأخبار، تتخلله بعض الفلسفات ودروس أخلاقية وغيرها، كان ذلك تقريباً ضمن اطار مسار الحضارة الغربية الوسيطة، الى ان تضافرت في القرن التاسع عشر مجموعة من العلوم الانسانية والاجتماعية والاقتصادية فولّدت هذا العلم التبليغي الذي هو علم التاريخ الذي أصبح مع ظهور نظرية السببية في مطلع القرن العشرين، يتناول ما سمّاه ابن خلدون سابقاً تاريخ الباطن، أي معرفة ما خلف "الظواهر" الاجتماعية. ان التواصل بين علوم الانسان وعلوم المجتمع في كل الحضارات، هو أساس نشأة علم التاريخ بمعناه الجديد أي بمعنى ان نتعرف على تطور المجتمعات وأسباب هذا التطور ومآلاته.
هذا يحدد ما هو التاريخ. ولكن ما الذي يدفع أمة ما لأن تؤرخ لحالها؟ لماذا يفترض مؤرخ ما ان عليه ان يكتب التاريخ؟ ما الدافع الشخصي، هل هو البحث عن مهنة أم البحث عن حقيقة أم عن مجد؟
- لنأخذ أمثلة من مجموعة من المؤرخين الذين شهدتهم الحضارة العربية لكي نفهم في ما بعد، وضعنا الذاتي في الحضارة العربية الكلاسيكية، ودائماً نأخذ أمثلتنا من مرحلة ازدهار الحضارة العربية، لنأخذ مثلاً الطبري الذي هو مصدر أساسي من مصادر التأريخ الاسلامي. لماذا كتب الطبري تاريخ الرسل والملوك الذي لا يزال حتى الآن مصدراً أساسياً من مصادر التاريخ الاسلامي؟ كتبه بشكل أساسي ليخدم علم الحديث الديني والتفسير. إذاً الطبري قبل ان يكون مؤرخاً كان محدثاً وفقيهاً. وكتاب "تاريخ الرسل والملوك" هو تاريخ عِبَر انطلاقاً من المفهوم الديني الاسلامي، كتب ليخدم علم الحديث وعلم تفسير القرآن بشكل أساسي. ثمة وظيفة تحددت في زمانها ومكانها آنذاك عندما كان علم الحديث يختصر ثقافة المسلم الثقافة العامة. المثقف المسلم كان هو الفقيه، وبالتالي ارتبط علم التاريخ بالفقه وعلم الحديث.
لنأخذ مرحلة أخرى - الطبري عاش في القرن الثالث للهجرة - مرحلة المسعودي في القرن الرابع للهجرة والتي هي مرحلة انفتاح الحضارة العربية وخروجها من قضايا الفقه والحديث بشكل معزول، وتعرّفها على حضارات اخرى. يومها بدأت الحضارة العربية تتعرف على الحضارات الهندية والفارسية واليونانية. وبدأت الترجمات والانفتاح. اذاً لماذا كتب المسعودي تاريخاً؟ كتب التاريخ ليدرس تاريخ العالم. مع المسعودي ننتقل الى مرحلة اخرى هي مرحلة التفاعل ما بين الحضارات باتجاه كتابة تاريخ وتاريخ مقارن. المسعودي دمج الجغرافيا التاريخية مع التاريخ واعتبره بعض المستشرقين أول "تكنولوجي" في درس عادات وتقاليد وشعوب غير اسلامية بذهنية المراقب. هنا أيضاً انتقل المؤرخ على مستوى الهدف والحقل والمضمون الى مرحلة اخرى هي مرحلة العالمية.
بعد المسعودي الذي هو حلقة أساسية من حلقات الكتابة التاريخية نصل الى ابن خلدون نجم الحلقة الرابعة الذي كتب تاريخاً ليفهم ما يجري، ليفهم التاريخ انطلاقاً من جملة من الاعتبارات او الأسباب، نلخص أهمها بسببين:
الأول ان ابن خلدون استوعب هذا التاريخ الذي أنتج خلال ثمانية قرون، وقرأه، وكان في الدرجة الأولى قارئاً فذاً، هو لم يقرأ التاريخ فقط بل قرأ كل العلوم كفيلسوف وقاضٍ شرعي. قرأ كل علوم الحضارة الاسلامية بما فيها علم التاريخ. وكان هذا لا بد ان يولّد ثقافة جديدة نوعية.
السبب الثاني الذي دفع ابن خلدون ليكتب التاريخ انطلاقاً من تحليل بواطنه هو معاصرة ابن خلدون. كان جزءاً من الحدث السياسي، وجزءاً من الزمن التاريخي الذي عاصره. كان قاضياً ووزيراً وأراد ان يفهم لماذا؟ وماذا يحصل في العالم الاسلامي؟ عصر ابن خلدون هو عصر الاجتياحات الصليبية، عصر اجتياح المغول وتفكك الدولة في شمال افريقيا ووصول تيمورلنك الى دمشق. عصر امتلأ بهزات سياسية واجتماعية واقتصادية. هذه العواصف فعلاً تحتاج الى جواب: ماذا يحصل؟ لماذا يحصل؟ كيف يحصل هذا؟ وهو بذاته يقول ان تاريخه هو معرفة كيفيات الوقائع. كيف تحصل؟ كلمة "كيفيات" كلمة خلدونية. اذاً كتب ابن خلدون تاريخاً ليفهم. وفي رأيي ما ينطبق على ابن خلدون ينطبق على أي مؤرخ جدي هو صانع تراكم ثقافي ومعرفي يصل الى لحظة تنفجر فيها أزمة تاريخية. في هذه اللحظة لا بد للمؤرخ من ان يعود الى الماضي ليستنطقه على مستوى فهم ماذا حصل ولماذا حصل؟
وإذا عدنا الى مسار التاريخ الأوروبي، في القرن الثامن عشر سنجد ان فولتير كتب تاريخاً مهماً ليفلسف الأمور على مستوى الثقافة السائدة في عصره الذي كان جزءاً منها ومنتجاً فيها، ثقافة العقلانية.
كان التاريخ قبل القرن الثامن عشر تاريخاً محصوراً في أوروبا، تاريخ الكنيسة والفرق المسيحية والحروب الدينية وغيرها، خرج فولتير من هذه القوقعة الأوروبية ليفهم تاريخ العالم، تاريخ الحضارات. ان وضعه شبيه قليلاً بوضع المسعودي، لا سيما عندما قال فولتير لقرائه ان التاريخ ليس تاريخ المسيحية واليهودية وذلك في معرض نقده لبوسويه الذي اعتبر ان الحضارة هي الحضارة المسيحية اليهودية. كان فولتير أول من خرج على المركزية الأوروبية، اذا صح التعبير، هو الذي استحضر الحضارة الهندية والحضارة اليونانية، والحضارة العربية، قائلاً إن هناك حضارات يجب ان نتعلمها. وفولتير الذي يمثل العقلانية وعصر الأنوار، كتب تاريخاً ليثبت ان هناك تاريخاً عالمياً هو ملك الجميع ويجب ان يستفيد منه الجميع باتجاه استخلاص أنظمة سياسية عاقلة او عقلانية.
معنى ذلك اننا وصلنا الى مرحلة تفسير الحاضر على ضوء الماضي. يعني ان غاية التاريخ فهم قوانين ما أوصلتنا الأحداث اليه حالياً. إذن لماذا أصبح الحاضر حاضراً؟ لماذا سار التاريخ هذا المسار فأوصلنا الى هنا؟ هل هذا همّ عربي؟ هل يمكن اعتباره همّاً عند المؤرخ العربي الحالي؟
- هذه التاريخانية بدأت منقوصة لأنها بدأت مقلدة. برأيي كان الجبرتي في مطلع القرن التاسع عشر آخر حلقة من حلقات الثقافة التقليدية المعنية بدمج الفقه بالحديث، كان متأثراً الى حد ما بالمقريزي، والى حد كبير بابن خلدون لناحية وصفه لكل مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية... الخ. بعد ذلك كانت القطيعة وبدأت الحداثة العربية، ولكن بدأت مقلِّدة للتاريخانية الأوروبية.
على يد مَن مثلاً؟
- بدأت في أواخر القرن التاسع عشر على يد أبناء الجيل الإصلاحي الأول مثل محمد حسين هيكل الذي كتب "السيرة"، ومثل الرفاعي - المؤرِّخ المصري المعروف مطلع القرن العشرين - هؤلاء حاولوا ان يقرأوا التاريخ الإسلامي بحداثة أوروبية لكن من دون أن يسبروا غور تاريخية المجتمع الإسلامي. لقد ساد معهم نوع من اسقاط الحداثة على التاريخ الإسلامي. بمعنى أن محمد حسين هيكل يحاول أن يُفسِّر بعض السُنّة، بعض مظاهر السيرة بذهنية أوغست كونت.
إن نُعَقْلِنَ بعض ظواهر السيرة أو ظوهر السُنّة بذهنية الآخر، خطوة لا بأس بها ولكن المشكلة انه لم يَجرِ أي استكمال لها. لم تُكمَّل الى ان بدأ التأريخ الأكاديمي الشكلي، الذي كانت له ايجابيات وسلبيات.
لماذا؟ تاريخنا اصطبغ بسمات ايديولوجية فاقعة وطغت عليه الايديولوجيا بحيث ان العلماني أو المسيحي أو أي باحث يأتي من خارج الايديولوجيا السائدة يعجز عن أن يوصل الأمور الى نهاياتها؟
- عندي سبب آخر له علاقة بالتراكم الذي حصل. التراكم قليل بسبب الوقت. هؤلاء، أنتجوا وأعطوا لكن بيننا وبينهم لم يمرّ زمن طويل بعد. عندما نتحدث عن ابن خلدون، وعن التراكم خلال 800 سنة، وعندما نتكلم عن المدرسة المنهجية الألمانية أو الفرنسية التي نشأت في القرن التاسع عشر ولاحقاً، نجد أيضاً ان هناك تراكماً طاول أربعة قرون حتى القرن التاسع عشر. فهناك تراكم من الانتاج التاريخي هو الذي أنتج هذه المدارس الأوروبية التاريخانية، التي حاولت أن تفهم تاريخها وعادت وأنتجت مدارس متقدمة في بحثها عن التاريخانية، ومنها مدرسة الحوليات الفرنسية، في الثلث الأول من القرن العشرين.
بالنسبة إليّ، السبب تاريخي بسيط، ولا يجوز اللجوء الى تهم ايديولوجية. برأيي الجيل السابق أنتج تاريخاً مهماً كان يجب أن نُكمِّله. وهذا أمر يحتاج الى بحث لا نعرف إذا كان الجيل اللاحق كمَّل وأنتج وتجاوز. هذا جزء من مهمات بحوث تحمل عنوان تأريخ التأريخ العربي الحديث.
والتي لم يقم بها أحد بعد...
- هناك محاولات لا تزال "جنينية" من عبدالله العروي ومنّي ومن زملاء آخرين، لكنها تحتاج فعلاً الى وقت وزمن وتقنيات بحثية.
ألا تعتقد بأن في كتابك "الذاكرة والتاريخ"، محاولة للاقتراب على الأقل من موضوع تأريخ التاريخ عبر نظرة ذاتية كوَّنتها أنت بالذات؟
- تماماً، هذا كتاب محكوم ببحث ذاتي له حيّز محدود من الوقت والجهد، لكن المطلوب جهد أكبر. في مراكز الأبحاث الغربية هناك تمويل لهذا النوع من الأبحاث على المدى الطويل. نحن ربما كان نفسنا قصيراً والباحث الذي له نفس طويل لا يُدعم بما فيه الكفاية حتى يُنتج بحثاً على المدى الطويل. لأن البحث العلمي الجدي على المدى الطويل يتطلّب الانصراف الى العمل سنوات وسنوات، وأعتقد ان الرأسمالية العربية ليست رأسمالية واعية كما يقولون.
لماذا نجد جهداً فردياً مثل مكسيم رودنسون، في "الإسلام والرأسمالية"، يقابله جهد فردي عربي مثل أحمد أمين في تأريخه للثقافة والحضارة العربية؟
- لا شك أن عمل أحمد أمين تأسيسي، لكنه ذو طابع موسوعي، لا يحتوي على جهد تحليلي يساعد فعلاً على الفهم التاريخاني للحضارة العربية. هو جهد تجميعي كان يسمح به زمن معين. عليك أن ترى كيف كان أحمد أمين يعيش في ذلك الزمن، لا شك أنه كان يعيش مرتاحاً ليُنتج هذا العمل الموسوعي، لكنه عمل تنطبق عليه مواصفات العمل الموسوعي. ولا يتطلب جهداً فائقاً في عملية تحليل الظواهر. انه عمل تأسيسي بمعنى انه عمل يدفع الى عمل أكبر. الآن لا يمكنك ان تكتب تاريخاً ثقافياً للحضارة العربية من دون أن يكون أحمد أمين أحد مراجعك. على الأقل ليس من ناحية المنهج بل من ناحية التصور العام لعلاقة الثقافة بالتاريخ المطلوب. انه التراكم ولا بُدّ حتى يحصل التراكم من أن تمر على أحمد أمين لتبيان وجهة نظره ونقضها، ولكن لا يمكن التعامل معه كمرجع متخصص أنتج عملاً يشكّل حلقة متقدمة. هو كتاب موسوعي مثل أي موسوعة تُعرفك على البدايات، وعلى تلمُّس الطريق.
هل على المؤرخ ان يقف أمام حاجز السياق الايديولوجي المتواصل للتاريخ المقدَّس للأُمَّة أم أنه يستطيع تجاوزه؟
- في هذا الموضوع أُميّز بين نوعين من النقد. أولهما النقد الايديولوجي للايديولوجيا، وهذا كثيراً ما يقع فيه الباحث العربي سواء كان سوسيولوجياً أو اقتصادياً أو مؤرِّخاً، يعني انه يحمل ايديولوجيا مغايرة لخطاب الآخر، لايديولوجيا ما، فينتقدها من موقع معين. هذا المستوى من النقد وعلى رغم انه مفيد على مستوى المعلومة، والمعرفة العامة، فإنه غير مفيد على المستوى الابستيمولوجي.
المستوى الثاني هو النقد الابستيمولوجي الذي أُحبِّذه وأحاول أن أندرج فيه وأن أُدخِله في كتاباتي أو في مداخلاتي في الجامعة، وفي اساليب تدريسي لعلم التاريخ، وتحديد منهجية البحث التاريخي. لا تزال الثقافة العربية الأكاديمية والمدرسية مقصِّرة جداً في مجال الابستيمولوجيا أي في مجال معرفة كيف تطوّر العلم وكيف حصلت قفزاته المعرفية.
على رغم ان العروي والجابري عملا على هذا الأمر...
- لقد حققا شيئاً مهماً ولكن هذه الثقافة لم تدخل بعد في المناهج الاكاديمية، يعني لا على مستوى المدرِّسين الأساتذة، ولا على مستوى البرامج بالنسبة إلى الطلاب. ثقافة الابستيمولوجيا لا تزال متأخرة.
عن نقد الايديولوجيا؟
- أجل. ولذلك أدعو الى النقد الابستيمولوجي، وإلى الخروج من الايديولوجيا الى النقد الابستيمولوجي. كيف ذكرت ثلاثة ايديولوجيات، وقلت إن جيلنا لا يمكن أن يكون خارج هذه الايديولوجيات لأنها تُخص أزمنة تاريخية سارت فيها هذه الثقافات. لكن كيف تنتقل من النقد الايديولوجي الى النقد الابستيمولوجي؟ لنأخذ أمثلة: الثقافة القومية مفيدة جداً وأنا استفدت منها استفادة كبيرة من أصحابها.
مثل قسطنطين زريق وعبدالعزيز الدوري...
- أجل، وحتى من الكتابات الايديولوجية لحركة القوميين العرب، وحزب البعث... ولكن كانت هذه الثقافة القومية توصلني وقد ذكرت ذلك في أول كتاب لي "الاتجاهات الاجتماعية السياسية" الى ان أُحوِّل الثقافة القومية الى ثقافة تكنولوجية. بدل ان أغرق في مديح خصائص الأمة، أدرس هذه الخصائص بمنهج تكنولوجي، فبرأيي ان علم الاثنولوجيا هو علم القوميات وليس ايديولوجية القوميات. يعني بدل ان نبقى على مواصفات القومية وما هي القومية ونحدِّد أننا تتوافر فينا شروط القومية حتى نقول عن أنفسنا قوميين، ننتقل الى مستوى آخر، مستوى ابستيمولوجي، يقول لنا كيف نتعلم كيف ندرس خصائص الشعوب، وهذا حقل من حقول الاثنولوجيا. انه مسار صحيح من القومية الى الاثنولوجيا. لقد قرأت الإسلاميات بدءاً من كتابي "اتجاهات" الذي فيه بصمات ماركسية، وقرأت الإسلام وبدأت قراءاتي الإسلامية بنصوص عصر النهضة جمال الدين الأفغاني، محمد عبده ورشيد رضا وهم فعلاً أثّروا فيّ آنذاك في مواجهة قراءاتي الأحادية التي كانت لمفكري العلمانية من أمثال شبلي شميل وفرح انطون. وهكذا حدث في ذهني نوع من التوازن آنذاك بين الثقافة العلمانية والثقافة الإسلامية. فأدّت بي الثقافة الإسلامية، خصوصاً بعدما انتشرت الحركات الإسلامية وسادت ثقافتها، الى قطع المسار من الثقافة الإسلامية الى علم الاجتماع الإسلامي، وكان هناك لدي انتقال من الايديولوجيا الإسلامية الى الابستيمولوجيا الإسلامية، التي هي علم الاجتماع الإسلامي. ما يعني انني أفهم هذه الظاهرة الدينية بدلاً من أن أرفضها كما يرفضها الماركسيون، أفهمها في شكل قريب لها. أفهم مبرراتها وأسبابها، ولماذا هذه القلَّة تظهر بهذه الديناميكية الاجتماعية السياسية. وفعلاً مارست هذا في الثمانينات حيث بدا للبعض انني صرت إسلاميّ النزعة. لقد رجعت حقاً الى الإسلام، ولكن ليس من موقع الايديولوجيا، بل من موقع المعرفة. الأمر نفسه مع الماركسية. الماركسية أيضاً استفدت منها استفادة كبيرة لكني حاولت ان انتقل من الموقع الايديولوجي الملتزم سياسياً أو الملتزم على مستوى المقولات الجامدة الدوغماتية. لأتعلم من الماركسية لأنها فعلاً علم يدرس، تطوّر المجتمع وأهميّة العوامل الاقتصادية الفاعلة في تاريخنا الاجتماعي. فهذا المسار الذي حاولت أن أتحدَّث عنه في "الذاكرة والتاريخ"، مسار ابستيمولوجي أو مسار يتسم بالقلق الذي يحاول أن ينقل الباحث من موقع الايديولوجيا الى موقع الابستيمولوجيا.
معظم كتبك السابقة كانت كتب تطبيق، لكن "الذاكرة والتاريخ" يمكن اعتباره كتاب تنظير. فهل لمدرسة "الحوليات" علاقة بتطورك هذا؟
- طبعاً عندما حضرت أول أطروحة لي وهي التي انتجت كتاب "الاتجاهات" في السنوات الأولى في السبعينات، كنت قرأت كتابات تطبيقية لمدرسة "الحوليات" خصوصاً كتاب دومينيك شوفالييه عن جبل لبنان، وهذا تلميذ مدرسة "الحوليات" وتلميذ مجموعة من المؤرخين الكبار الذين كانوا يكتبون مقالات في مجلتها. كتاب شوفالييه صدر سنة 1971، وكنت يومها في بلجيكا أُحضِّر أطروحتي وفوجئت بهذا العمل فعلاً. تأثّرت به وقلت ذلك في مقالات باللغتين الفرنسية والعربية. شيئاً فشيئاً اكتشفت علاقة الماركسية بالحوليات من خلال مؤرخين مستشرقين متأثّرين بالحوليات، ومنهم كلود كارهن وهو ماركسي ومن جماعة "الحوليات" في الوقت نفسه. قرأته وكان مقال كلود كارهن عن الاقطاع مفتاح فهم ما تدعو اليه المدرسة. وهكذا تجد بصمات كلود كارهن غير المباشرة في كتاب "جبل لبنان". لقد غيّرت بصماته وجهة نظري حول الاقطاعية ومن خلاله تعرفت على مدرسة "الحوليات" ما دفعني في ما بعد الى قراءات نظرية حول هذه المدرسة.
وكانت القفزة الكبرى هي التعرف على كتاب بروديل حول البحر الأبيض المتوسط. لقد استشهدت به في كتب لاحقة لي مثل "بلاد الشام" وكتبي حول الدولة العثمانية. لا شك ان مدرسة الحوليات ساهمت مساهمة كبيرة مع الماركسية ومع العوامل الأخرى التي ذكرتها، في توجيهي نحو ما تسميه مدرسة الحوليات. حيث أدركت حقيقة وجود "التاريخ/ المسألة" أي أنه لا يوجد تاريخ هكذا في الهواء، مجرد سرد تاريخي وتسلسلي، هناك تاريخ - مسألة. وواضح جداً في كتاباتي، انني دائماً آخذ مسألة ما وأفككها.
التاريخ والزمن
بالنسبة اليك اذن يقوم الأمر على تحويل التاريخ من تاريخ الى زمن. أنت تفرّق بين التاريخ والزمن. وبين التاريخ والذاكرة. هذه الذاكرة التي تركز كثيراً عليها، حيث انك تعتبرها أمراً مستمراً مقابل التاريخ الذي هو شيء قطعي. بالمعنى المتفاهم عليه، تعيد التاريخ لتاريخيته...
- استخدمت حقيقة مصطلح "الذاكرة" ايضاً بتأثير من مجموعة من المؤرخين المنتمين لمدرسة الحوليات، في طليعتهم جاك لوغوف صاحب كتاب Mژmoires et Histoires حول العصور الوسطى. وفي استخدامه كلمة الذاكرة يبدو لوغوف متأثراً تأثراً كبيراً بالتكنولوجيا وبكلود ليفي - ستراوس بالذات. الذاكرة هنا تحمل مستويين: مستوى التجربة الذاتية للشخص ومستوى التجربة الجماعية او الذاكرة الجماعية. وهذان يختلطان مع بعضهما فيولدان نوعاً من الميثولوجيا. فالذاكرة مهمة ولكن اذا انساق المؤرخ لها، ينساق نحو الايديولوجيا، نحو الميثولوجيا. لنأخذ مثلاً وضع المؤرخ الذي صارت "شغلته وعملته" ان يرى التاريخ في الصراع الطبقي، لديه، الصراع الطبقي لا يعود مدخلاً لفهم تاريخي صحيح، يصبح هو الغاية، ليثبت وجود الصراع الطبقي يصبح ايديولوجيا بالتالي. هذا النوع من الذاكرة الشخصية يستمد عناصر تكوينه من نص معين. يصبح هذا النص مقدساً او متعالياً باسم العلم.
هناك أمر غائب أساساً في كل كتاباتك التاريخية هو تاريخ الثقافة نفسها. كأنه ليس لديك اهتمام بتاريخ الثقافة، عندك اهتمام بالتاريخ الاقتصادي، تاريخ العلاقات بين الطوائف، بين الدول... ولكن الثقافة نفسها غائبة عندك. وكأنها ليست جزءاً من الحركة التاريخية التي تصفها...
- يجب ان نميّز بين مستويين: مستوى كتابتي للتاريخ وممارستي للبحث التاريخي والتي ينطبق عليها ما تفضلت به. أجل ان ثمة اهتماماً بالتاريخ الاقتصادي، بالتاريخ السياسي والاجتماعي، وبتاريخ الأفكار ولكن في مضمونها السياسي. ولم أهتم بالتاريخ الثقافي. هذا مرده الى نمط من الممارسة، نمط من التكوين الثقافي نشأت عليه بحكم غلبة الاهتمام السياسي على التاريخ، وعلى الجوانب التاريخية، أنا دخلت البحث التاريخي كما تعرف، وهذه مشكلة جيلنا الأساسية، الجيل الذي دخل علم الاجتماع وعلم الاقتصاد والفلسفة - من باب الاهتمام النضالي - السياسي، والاهتمام بالسياسة النضالية - ولذلك أنا قمت بجهد كبير لتحقيق عملية انتقالي. بإمكاناتي الذاتية فقط مع انها لم تكن تسمح بأكثر من هذا.
المستوى الثاني هو مستوى الوعي بمنهج البحث التاريخي. أعي تماماً هذه المدرسة وأشرف على رسائل وأطالب طلابي بكتابة تاريخ ما يمكن ان نسمّيه العقليات والذهنيات والحياة الخاصة، لأن فعلاً هذا هو التاريخ غير المرئي. وهذا هو فعلاً التاريخ الوجودي. لا يغيب عن بالي أبداً هذا الجانب وأدعو اليه ولكني بفعل تكويني الثقافي، كما قلت، وبفعل نمطي الممارسي الذي يحتاج فعلاً الى المزيد من الجهد، أغفلت هذا الجانب من دون أن أبخس من قيمته.
لماذا نكتب التاريخ؟ هناك بعض المؤرخين حلّوا هذا الاشكال عن طريق التركيز على التاريخ الاستراتيجي. وهذه هي الطريقة الأميركية في التعامل مع البحث التاريخي. كثير من المؤرخين مثل هانتنغتون وفوكوياما دمجوا بين علم السياسة والتاريخ وحوّلوا أنفسهم الى باحثين استراتيجيين، وهذه مشكلة تطرح مساءلة حول دور المثقف الباحث. هذا النمط من المثقفين يتيحه الاجتماع السياسي والعلم الأميركي. والى حد ما الأوروبي، حيث يمكن للباحث المؤرخ ان يوظف التاريخ في استشراف المستقبل من زاوية العلاقات الدولية وعلاقات القوة بين الدول. في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، من الصعب جداً ان يتحول الباحث الى مؤرخ استراتيجي لأسباب تعرفها، مثل طريقة صنع القرار، فهي طريقة اتخاذ عندنا لا علاقة لها بالبحث، لا بالمؤرخ ولا بباحث العلم سياسي. فالمؤرخ الجدي الذي لديه وعي تاريخي ولديه قلق - وليس كل المؤرخين لديهم هذا القلق المعرفي وهذا التساؤل - ماذا يفعل؟ لا شك انه يشعر بإحباط لأنه يرى ان كتاباته لا تفعل ولا تؤدي الى اي نتيجة. فيتولد لديه شعور انه لتجاوز الاحباط يجب ان يفهم ماذا يجري. مدرسة الحوليات لم تبدأ هكذا، بدأت مع لوسيان فيفر وزوجته ومع فرنان بروديل، بدأت بأنه يجب ان نفهم ما هي الاقطاعية في القرون الوسطى، ما هي الرأسمالية الحديثة، كيف تكونت وكيف تشكلت عند بروديل، وأن نفهم أفكار القرن السادس عشر، عند لوسيان فيفر وأطروحته حول رابليه.
هل يمكن ان يكون هناك مؤرخ ذاتي فعلاً بالمعنى الايجابي للكلمة، محايد فعلاً بمعنى ان كلمته تخرج فعلاً من تأمله بمجتمع طائفي واستقطابي هائل مثل المجتمع اللبناني؟
- ضريبة ذلك باهظة. لا بد من خيار هنا. وهذا الخيار تلعب فيه العوامل الذاتية دوراً أساسياً - هل عليه ان يكون جزءاً من طائفته أم ماذا يريد من طائفته؟ هل يقطع مع طائفته؟ وأنا يمكن ان تنطبق عليّ القطيعة أكثر مع احترامي للجميع. فكما تعرف النظام السياسي في لبنان نظام توزيع. وبالتالي اذا انخرطت في هذا النظام التوزيعي يقل شأنك ككاتب وكمؤرخ حيادي بالمعنى الذي تحدثت عنه انطلاقاً من الذاتية - وأنا أفهمك تماماً عندما تشدد على الذاتية بالمعنى الايجابي. فالذاتية بالمعنى الايجابي هي منتهى الموضوعية. وأنا أنتقد كثيرين من الزملاء الذين يبدأون مقدمات كتبهم "بأنا موضوعي وأنا علمي". بالعكس، بقدر ما ننطلق من الذات ولكن مع وعي الذات لمشكلة الذات وموقعها نكون موضوعيين وحياديين. لكن كما قلت، هذا النمط من ممارسة الكتابة، مكلف لسبب نفسي اجتماعي لأنه لا بد في النهاية ان لها شروطاً هي شروط الاستقلال. وهنا في لبنان تصبح شروط الاستقلال شروط انعزال او شروط اعتزال. ولنقل الاعتزال من موقع الذات. شرطها فعلاً اعتزال سياسات المصالح وسياسات المحاور. هذا أمر لا بد منه لممارسة البحث التاريخي الذي ينطلق من الذات ويحرص على الحياد. وأتمنى ألا ينطبق هذا عليّ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.