من المصطلحات التي انتبهت لها باكراً مصطلح (Think Tank)؛ وهو عبارة عن مؤسسات ومعاهد فكرية يعود تاريخها إلى فترة الحرب العالمية الثانية حيث كان الخبراء العسكريون يجتمعون في أماكن آمنة من التنصت ليضعوا الاستراتيجيات الحربية، ومنذ ستينات القرن الماضي أصبحت أكثر شمولاً فلم تعد مقتصرة على الشؤون العسكرية بل أصبحت تعني بالدرجة الأولى المعاهد البحثية المتخصصة في تقديم المشورة لصناع القرار في مختلف الشؤون الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتقوم بعمل الأبحاث ونشر المقالات والدراسات والمقترحات التشريعية بشأن مسائل محددة تتعلق بالمجتمع والاقتصاد والسياسة ونحوها. وجاءت فكرة إنشاء منتدى الرياض الاقتصادي استجابة لدعوة الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- حين كان ولياً للعهد، حيث دعا القطاع الخاص للاضطلاع بدوره الرائد في قيادة مسيرة الاقتصاد الوطني لمجابهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية من خلال إعداد العنصر البشري الفاعل والمؤثر، وتنويع المداخيل، وترقية مستوى الإنتاجية وتوفير فرص العمل وتحسين مناخ الاستثمار وتعزيز مفهوم اقتصاد السوق، إذ لم يكن الهدف من تأسيس المنتدى العام 2002م أن تمتلك المملكة منتدى كغيرها من الدول، ولم نسعَ لتقليد منتدى دافوس أو غيره من المنتديات التي أصبحت تملأ مختلف المدن العالمية من سان بطرسبرغ الروسية إلى بكين الصينية إلى منتدى البحر الميت.. إلخ. إن هذه الدعوة حينذاك جاءت في وقتها لأنه ليس من المنطق أن يضطر رجال الصناعة والتجارة السعوديون للسفر إلى الدول المجاورة حتى يستمعوا إلى الأفكار الاقتصادية، رغم امتلاك المملكة أعداداً أكبر من الخبراء الاقتصاديين الذين يتمتعون بمؤهلات وخبرات تفوق ما تملكه دول المنطقة. وخلال مسيرته المباركة استطاع المنتدى استقطاب عدد كبير من العلماء والمفكرين الحريصين على مصالح الوطن، الذين ساهموا بوقتهم ومالهم من أجل بلورة فكرة المنتدى وجعله أداة فاعلة لتطوير الاقتصاد الوطني، وإعداده لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية من خلال تأصيل ثقافة متكاملة ترسخ قيمة الدراسات والبحوث باعتبارهما عنصراً مهماً وفاعلاً في صناعة اتخاذ القرارات. شهادة للتاريخ: لابد من الإشارة إلى أن المنتدى كان أول من أدخل المرأة في المناسبات العامة الرسمية، وهو من قام بتعيين سيدات متخصصات في مجلس الأمناء، حيث شغلت الأستاذة هدى بنت عبدالرحمن الجريسي منصب نائب رئيس مجلس أمناء المنتدى، وكانت الدكتورة نورة بنت عبدالله الفايز - أول امرأة تشغل منصب نائب وزير في تاريخ المملكة - والدكتورة هند بنت محمد آل الشيخ والدكتورة ناهد بنت محمد طاهر وغيرهن من أعضاء اللجنة التأسيسية للمنتدى، وكانت الاجتماعات المشتركة بين الرجال والنساء لا تتم إلا في منتدى الرياض الاقتصادي، وقد كانت معالي الدكتورة حنان بنت عبدالرحيم الأحمدي أول قائدة لورشة عمل نسائية تحضيراً للدورة الأولى لمنتدى الرياض الاقتصادي، وشاركن بأوراق عمل مميزة؛ فالمرأة لها تقدير ومكانة دينياً واجتماعياً وفكرياً. وأيضاً الإشادة بدور الأستاذ حسين بن عبدالرحمن العذل الذي كان له دور كبير جداً في تأسيس منتدى الرياض الاقتصادي، حيث كان يملك خبرة إدارية كبيرة ويحظى بتقدير الجميع وثقتهم. لقد استطاع المنتدى المساهمة في حل العديد من المشكلات والقضايا الاقتصادية، ذات العلاقة بالموانئ والاستيراد، وساعد إلى حد ما في حل مشكلات المدن الصناعية، وطرح قضايا النقل البري باكراً، مثل إمكانية إنشاء المترو في الرياض، كذلك أسس لكثير من القضايا التي عالجتها رؤية 2030 بحكمة وذكاء، وقدم المنتدى حتى الآن 20 نشرة، و114 حلقة نقاش، و308 توصيات، و49 دراسة، و26 ندوة وورشة عمل، وقد احتفى الإعلام مشكوراً بنتائج المنتدى، وأعجب الناس بالجرأة والصراحة اللتين تميز بهما، وأيضاً من قوة المطالب الإصلاحية والتطويرية الموجهة إلى الحكومة. ولجعل المنتدى مركزاً فكرياً استراتيجياً، وللمحافظة على ثقله ومكانته أتمنى على القائمين عليه معالجة نقص البيانات والمعلومات حتى يمكن الاستفادة من ذلك في إعداد الدراسات المهمة، والأهم أن تجد نتائج هذه الدراسات طريقها إلى حيز التنفيذ، وألا تبقى حبيسة الأدراج، وتطوير عمل لجانه، والاستفادة من خبرات وتجارب رجال الأعمال البارزين ونشر سِيَرِهم، وألا يفقد القائمون على الغرفة التجارية حماستهم لدعم المنتدى، فرغم بلوغي عقدي الثامن من العمر لم أتوانَ عن حضور إحدى حلقات النقاش لمنتدى الرياض الاقتصادي، عندما دُعيت إليها قبل أيام، وكانت عن أهمية توحيد مرجعية إصدار الضرائب والرسوم والزكاة، ولعل منتدى الرياض يعني لي أكثر من مجرد ملتقى للقطاع الخاص مع المسؤولين يتحدث فيه الطرفان عن المشكلات، حيث أراه ملتقى للصفوة من الجانبين لتبادل العصف الفكري بحيث يتم التوصل إلى حلول واقتراحات صالحة للتطبيق في الوقت الحاضر والمستقبل، بناء على ما يستشرفه الخبراء في دراساتهم القيمة، للمساهمة في تطوير الاقتصاد الوطني، وتقديم حلول للتحديات التي يمكن أن يواجهها الاقتصاد أو المجتمع بالاعتماد على دراسات وأبحاث علمية للمساعدة في صنع القرار. وأشكر خادم الحرمين الشريفين على تكرمه برعاية الدورة العاشرة لمنتدى الرياض الاقتصادي في نوفمبر من هذا العام 2022م، والتي تتضمن طرح 4 دراسات اقتصادية مهمة عن تحديات العمل الجديد، وأهمية توحيد مرجعية إصدار الرسوم والضرائب والزكاة، وربط مناطق المملكة بالسكك الحديدية وتأثيرها على السياحة، والاستثمارات الجديدة والتحول الرقمي والاقتصاد المعرفي. وأختم بقول الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- : "لقد فتح منتدى الرياض الاقتصادي الباب على مصراعيه لتلاقح العقول والأفكار الاقتصادية لرجال وسيدات الأعمال المهتمين والمهتمات بالشأن الاقتصادي من أجل إرساء قاعدة فكرية تسهم في تعزيز المبادرات الخلاقة وتساعد على تنمية الوعي بالتحديات..".