بالنسبة للزمن فإن المستقبل يتجسّد في الأفق، الماضي يختبئ وتكتنزه الأعماق، بينما اللحظة مساحة اختيارية بين الطفو والغوص، وهيئة التراث وبدعم من وزارة الثقافة تكفّلت بأن توثّق أغصان الحاضر بجذور التاريخ مبرهنة مرة بعد مرة أن لكل أرض شجرة وحكاية، لتعلن عن اكتشافات جديدة في مواقع أثرية في موطن الأسرار والكنوز جزر فرسان الواقعة على بعد نحو 40 كم من مدينة جازان، من خلال عدد من الظواهر المعمارية والقطع الأثرية التي تعود إلى القرنين الثاني والثالث الميلاديين، كمحصلة أعمال بحث وتنقيب لفريقٍ علمي سعودي فرنسي مشترك بالتعاون مع جامعة باريس الأولى، وذلك ضمن جهود الهيئة العلمية في مجال المسح والتنقيب عن المواقع التراثية بالمملكة، وصونها والاستفادة منها كمورد ثقافي واقتصادي. جزر فرسان باعتبارها لؤلؤة في البحر وجوهرة في متناول التنبه، وفي السفر للأمس والتاريخ إنقاذ للتفاصيل، وإنعاش للذاكرة وحماية للحكاية من الذبول والنسيان، كشفت أعمال الفريق العلمي التابع لهيئة التراث عن وجود قطع نادرة من ضمنها درع روماني مطوي مصنوع من سبائك النحاس، وآخر من نوع «لوريكا سكواماتا» الذي يعد الأكثر استخداماً في الفترة الرومانية من القرن الأول إلى الثالث الميلادي، ويمثّل أكثر القطع النادرة التي تمكّن الفريق من إيجادها، إلى جانب اكتشاف نقش من العقيق لشخصية رومانية شهيرة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية الشرقية «جينوس»، بالإضافة إلى العثور على رأس تمثال حجري صغير. حضارات تؤكّد أن الأهداف والأحلام رؤى وتبريرات محفزة للركض والبحث والتخمين، وبالمقابل فإن الآثار دلالات وعلامات وإشارات، رحلة وملحمة بدأها فريق سعودي فرنسي كان قد قام برحلات استطلاعية واستكشافية في جزر فرسان عام 2005م، والتي حددت المواقع ذات الدلالات الأثرية، ومن هناك بدأت أعمال المسح في الجزيرة عام 2011م، وقادت الاكتشافات السابقة خلال الفترة من 2011 - 2020 إلى العديد من الاكتشافات المعمارية والأثرية المثبتة بشكل ملموس، وأن هذه المواقع يعود تاريخها تقريباً إلى 1400 قبل الميلاد. اتساع لجهود هيئة التراث في مساحة البحث بالوصول إلى أبعد نقطة في الركن الجنوبي الغربي من البحر الأحمر موقع جزر فرسان، وفي أعماق التاريخ عبر العديد من الكشوفات الأثرية التي أظهرت مواقع ذات أهمية عن سير خطوط النقل التجاري البحري قديماً، ومقدمة إضاءات عن الدور الحضاري للموانئ التاريخية في جنوب المملكة، ومكانتها في السيطرة على تجارة البحر الأحمر، المؤكدة على العمق الحضاري الذي تتمتع به جزر فرسان على وجه الخصوص، وبشكل عام أهمية المملكة العربية السعودية، وموقعها الاستراتيجي كونها مركزاً للحضارات المختلفة. مفاتيح لأبواب كل منها يفضي إلى عوالم وحضارات مديدة وقديمة تعلن عنها هيئة التراث لتكون عناوين ودروباً إلى اكتشافات وحكايات تاريخية، استمراراً للجهود الحثيثة لإدارة مكونات التراث الثقافي، وحماية وصون المواقع الثقافية، والاستفادة منها في التنمية المستدامة من خلال العمل وفق استراتيجيات دقيقة، وشراكات واسعة النطاق على المستويين المحلي والدولي، تعريف بالمكان من وجهة نظر لا تراه من السطح وحسب وإنما تلاحظ تفاصيله وأوتاده وتركيبته وكافة عناصره، توعية أن كل خطوة اليوم هي تماس مع خطوات الأجداد بحسب صلة قرابة التاريخ والأرض.