ليست الفلسفة كفيلة بالتقدم الحضاري لوحدها كما يظن كثير من قرائها، وليست سبباً في الانفتاح الحضاري لوحدها، بل ليست وظيفتها أن تغير المجتمع وتطوره. الفلسفة تبحث في الحكمة، والحكمة هنا تعني وضع الشيء في مكانه، وفي سياقها الفلسفي فإنها تعني وضع التصورات النهائية في سياقها التواصلي الصحيح مع إمكانية تغيير هذا التصور إن ظهر أجدر منه، وهي بذلك تنفي بمضمونها التعصب للرأي والفكرة، وتفتح الباب على جميع الاجتهادات، وشرطها الوحيد أن يكون هذا الاجتهاد مبنياً على منطق معرفي رصين وليس عن هوى أو آيدلوجيا. لو كانت الفلسفة للتغيير -كما عند الماركسيين- لأصبحت آيدلوجيا ثم تطرفت، لأن التغيير يفترض وضع الحلول النهائية، لا التصورات المنطقية، وهي بذلك تصبح منغلقة على ذاتها ومحاربة لغيرها كما هو حال التيارات والأحزاب المتعصبة، لكن الفلسفة ليست كذلك. الفلسفة تاريخياً تأتي بعد قيام المجتمع بتغييرات سياسية ودينية وعلمية كما حدث في أثينا بعد انتقال الأسطول البحري إلى ميناء ضم ثقافات مختلفة تجمعهم أرض واحدة فكانت مضطربة في أفكارها زيادة على اضطرابها السياسي والديني -الديني يختلف عن التشريعي-، ثم جاء سقراط وحاول تنظيم كل هذا عبر مفاهيم كلية يستنبطها من محاوراته مع جميع مكونات المجتمع، وفي أوروبا جاء بيكون وديكارت بعد ميكافيلي وتوماس مور وغاليليو وصراعات دينية وسياسية استمرت أكثر من ثلاثة قرون، وكما حدث مع أوغست كونت بعد الثورة الفرنسية -وهي دينية سياسية- وأمثال ذلك تاريخياً كثير جداً، ولا أعرف حضارة قامت بسبب الفلسفة، بل تأتي الفلسفة لتنظم الحياة بعد عقود من الفوضى والاضطراب، وهي بذلك تقوم بمهمة عظيمة لمن تأملها. أقول هذا لأني لاحظت أن البعض/ الكثير يعطي الفلسفة أكبر من حجمها وحقها، وهي بلا شك عظيمة ومهمة لكنها ليست كل شيء، فالحضارة لا تُبنى إلا بتعاضد المعارف كلها لا مجالاً واحدًا لوحده، والفلسفة في عصرنا أصبحت مقترنة بعلوم دقيقة كالأعصاب والبيولوجيا ولولا هذا الاقتران لكانت تاريخاً يذكر ولا يؤثر واقعياً. الفلسفة انفتاح العقل بالتصورات، وليست تغيير الواقع بالتعصب.