اعتدنا منذُ مراحلنا العمرية المُبكرة على الترتيبات والتصنيفات في كثيرٍ من الأعمال التي نقوم بها، أو المسابقات والفعاليات التي نشارك بها، فكثيرًا ما تتردّد على مسامعنا جملة تصدَّر أحدهم وحصل على المركز الأول، تُقال مُضخّمة ومُفخّمة، جملة يملؤها الفخر ويسكُن ضواحيها، وذلك لاشكّ فيه. فصاحب المركز الأول لمْ يكُن شخصًا عاديًا؛ بلْ خارجٌ عن المألوف، مُثابر ومكافح، مُدرك لمواطن ضعفه ويعمل على تحسينها بدلًا من أن يخافها ويُخفيها، مُدرِك لخيرة الأحداث في حياته، يأخذ الحكمة من كل شيء ويمضي، صاحب المركز الأول لا يتراجع بسهولة، ولا تُرهقه المحاولات الفاشلة؛ بلْ تزيده إصرارًا ورغبةً في الحصول على ما يريد، والوصول إلى القمة. وفي حقيقة الأمر بلوغ القمة وحده لا يكفي! بلوغ القمة عبارة عن سعادة لحظية، أي أنّه سيكون فخورًا وقتئذٍ ولكن ماذا بعد؟ هل سيبقى فخورًا طيلة حياته بهذا الحدث؟ نعم سيبقى فخورًا به إن اتبع بعض الأُسس التي سيحافظ بها على بقائه في القمة، فالقمة تُستَحق لمَن يملك القيمة. ويحدُث ذلك باستمرارية الجهد والاطلاع والمثابرة، حين يكون ما يفعله بمثابة نظام لحياته، يفعله بشكلٍ روتيني، بحب وشغف دون تساهُل وتقاعُس! كما يترتب عليه المحافظة على صحته النفسية، وبناء شخصية كاريزمية ملائمة للمركز الأول الذي حصده، بالإضافة إلى تخيُّل صورته مع المركز الأول والبدء بالتصحيح والتشطيب والتنقيب والتطوير، البدء بتعزيز كل ما يجعله مُستحقًا للمركز من جميع الجوانب، مثل تعلّم شيء جديد، والانتباه لأخطاء الماضي وعدم تكرارها، والتخطيط والتصميم للمستقبل، والتنفيذ في الوقت الحالي، ثم فليكن هادئًا جدًا فهو في مكانه الصحيح والآمن. أما بالنسبة لمَن لمْ يحصد المراكز الأولى في حياته فلا قلق عليه، أقولها بيقين؛ لإيماني بأن المراكز ليست مقياسًا حقيقيًا للنجاح، فقد رأيتُ ما يكفي لترسخ القناعة عندي، فكم من أصحاب المعدلات المنخفضة في الجامعات ممّن قاموا بأنفسهم ونجحوا وتميّزوا بجهدهم لا بالمراكز الأولى والمعدلات العالية! سواء كان تميزهم بتخصصهم أو بموهبة تُشعل قلوبهم شغفًا، في نهاية الأمر لا أحد يستطيع أن ينكُر نجاحهم. لذلك أنصح أنْ يخصّص الطلبة وقتًا لممارسة مواهبهم إلى جانب دراستهم، فقد تكون انطلاقتهم العُظمى من الشيء الذي يفعلونه بحماسة، مع التوازن التام بين الدراسة وممارسة الموهبة، وبذلك تتسّع خياراتهم ولا تنحصر في مسارهم الدراسي. لمْ أكُن يومًا ضد المراكز الأولى فأنا من أهلها، تعرفني جيّدًا وأعرفها؛ لكنّها لمْ تصنعني! لقدْ صنعتُ نفسي، وثقتُ بالله أولًا ثمّ بنفسي؛ وكانت المراكز الأولى بمثابة بوابة عبور لدخولي وقبولي في كثيرٍ من الأماكن؛ لكنْ في كلّ مرحلة كان عليَّ أنْ أُبذلَ مجهودًا جديدًا؛ كيْ أُثبتَ جدارتي، وأُقنِع الآخرين بقدراتي. وفي الختام أُلخّص لكَ ما تجلّى أمامي في هذه الحياة ليجعلني أؤمن بأنّ المراكز الأولى لا تصنع المجد! أنتَ المصدر، وأنتَ مَن يصنع المجد.