لم يتخيّل عبد العزيز العقاب أن تتحوّل نزهة إلى مأساة سيعاني من تداعياتها طويلا، بعدما فقد 21 فرداً من عائلته جراء انفجار لغم وسط سورية التي تُسجل العدد الأكبر من ضحايا مخلفات الحرب عالمياً. ويقول العقاب (41 عاماً) لوكالة فرانس برس: "كان نهار فرح وتحوّل إلى مأساة، حتى بتّ أكره الخروج للتنزه". ويروي الوالد لعشرة أطفال كيف أن "الناس يشعرون دائماً بالخطر من قاتل مجهول لا يعرفون مكانه". وتعد الأجسام المتفجرة وضمنها الألغام من الملفات الشائكة المرتبطة بالحرب السورية المستمرة منذ مارس 2011. ورغم الهدوء على جبهات القتال، لا يزال ضحايا تلك الأجسام القاتلة في ارتفاع، إذ توثّق الأممالمتحدة مقتل أو إصابة خمسة أشخاص يومياً بسببها. ذات يوم في فبراير 2019، استعدت عائلة العقاب وبعض الأقارب للخروج في نزهة انطلقت من مسقط رأسهم في قرية السعن في ريف حماة وسط البلاد. لكنّ النزهة غيّرت حياة العائلة الكبيرة إلى الأبد. إذ قضى 21 فرداً منها، بينهم زوجة العقاب واثنان من أبنائه وأربعة من أشقائه وشقيقاته وعمّه. وأصيب آخرون إصابات حرجة، منهم من بات مقعداً ومنهم من بُترت أطرافه. ويقول العقاب الذي ارتدى جلباباً أبيض اللون ووضع نظارة شمسية أثناء تجوله برفقة أبناء أشقائه الأيتام، "عائلة بالكامل دُمرت". ويضيف متحسراً "لم تكن هناك معارك أو حرب عام 2019، لكن الموت كان ينتظرنا من داخل الأرض، هذا هو قدرنا". ويشرح بحزن "في الحرب تعرف عدوك من صديقك، تعرف أين يتواجد أعداء مسلحون ولا تقترب منهم، أما اللغم فعدو خفي لا تعرف مكانه". منذ عام 2015، وثّقت دائرة الأممالمتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام مقتل أو إصابة 15 ألف شخص جراء الذخائر المتفجرة، بما يعادل مقتل أو إصابة خمسة أشخاص يومياً. ويقول مدير الدائرة في سورية حبيب الحق جاويد لفرانس برس "إنه رقم ضخم"، مضيفاً "تُسجّل سورية اليوم أكبر عدد من الضحايا جراء الذخائر المتفجرة عالمياً". ووفق الأممالمتحدة، يعيش "حوالي 10,2 ملايين شخص في مناطق ملوثة بالذخائر المتفجرة"، وهو "ما يجعل سورية واحداً من اثنين يعيش في خطر جراء مخلفات الحرب، بحسب جاويد. ألغام عشوائية ولا يبدو خطر التصدي لخطر الذخائر المتفجرة سهلاً في بلد يشهد نزاعاً معقداً أودى بحياة نحو نصف مليون شخص، واتبعت خلاله أطراف عدّة استراتيجية زرع الألغام في مختلف المناطق. وتشكّل الألغام المتروكة في أراض زراعية وبين المناطق السكنية خطراً دائماً على المزارعين والمارة ورعاة الماشية. خلال تدريب لقوات النظام السوري على نزع الألغام في إحدى ضواحي ريف دمشق، يوضح ضابط في سلاح الهندسة لفرانس برس من دون الكشف عن هويته أن "العمر الافتراضي للألغام طويل بسبب خصائص المواد المتفجرة الثابتة"، مشيراً إلى أن "حفظها ضمن أغلفة يساعد على بقائها مهيأة للانفجار لفترة أطول". ويوضح أنه جراء "سيطرة مجموعات مسلحة متعددة على مناطق متفرقة، زُرعت الألغام بعشوائية". بشكل شبه يومي، تعلن السلطات السورية تفجير ذخائر وعبوات ناسفة من مخلفات الحرب خصوصاً في محيط العاصمة. إضافة إلى الجهود المبذولة في مناطق سيطرة الحكومة، تشهد مناطق خارج سيطرتها مبادرات للتصدي لخطر مخلفات الحرب. في شمال غرب سورية، تنهمك فرق من الخوذ البيضاء (الدفاع المدني في مناطق سيطرة الفصائل) بمسح وإزالة الذخائر وإقامة ورش توعية حول مخاطرها. ويقول رائد حسون، مدير مركز مسؤول عن إزالة الذخائر غير المتفجرة التابع للخوذ البيضاء تأسس في حلب العام 2016، إنه منذ ذاك الحين تم إتلاف نحو 24 ألف قطعة. ويوضح "نتعامل مع الذخائر غير المنفجرة وفق مبدأ واحد، الخطأ الأول هو الخطأ الأخير المميت". وتؤكد الأممالمتحدة أن "التنظيف هو الحل الدائم الوحيد لإزالة تهديد الذخائر المتفجرة". وتعكس بلدة داريا التي شكلت معقلاً للفصائل المقاتلة بين عامي 2012 و2016 في الغوطة الغربية قرب دمشق، مدى عمق المشكلة، إذ سجلت، وفق الأممالمتحدة، "درجة كبيرة من التلوث بالذخائر المتفجرة، ما أثّر أيضاً على الأراضي الزراعية". وشهدت داريا "أول عملية تنظيف" في منطقة تحت سيطرة النظام. "قطع أوصالنا" وتواجه الأممالمتحدة تحدياً رئيسياً يكمن في محدودية التمويل. ويقول جاويد "نحتاج للدعم اللازم من الجهات الفاعلة كافة، عاجلاً وليس آجلاً". عام 2017، خرجت زكية البوشي مع ثمانية من أفراد عائلتها لجمع الكمأة في بلدة دير حافر في ريف حلب الشرقي، ليعود ثلاثة منهم فقط. أثناء سيرهم في منطقة صحراوية، رصد شقيق زكية لغماً أرضياً ما مكّن أفراد العائلة من تفاديه، إلا أن لغماً آخر مخفياً كان لهم بالمرصاد. وتتكرر حوادث انفجار الألغام بالمدنيين خلال موسم الكمأة مع انصراف كثير من الأهالي إلى جمعها في مناطق صحراوية شاسعة خضعت لفترة لسيطرة تنظيم داعش الذي اعتمد زراعة الألغام كاستراتيجية أساسية خلال سنوات سيطرته، حتى إنه اعتاد تفخيخ أبنية وسيارات وأدوات منزلية وعبوات غذائية. وتقول زكية (47 عاماً) التي خسرت والدتها وشقيقها وفقدت ابنتها القدرة على النطق جراء انفجار اللغم، لفرانس برس بحسرة "قطع اللغم أوصالنا".