«وشم الطائر» رواية مؤلمة عن بيع النساء الآيزيديات في العراق من قبل داعش، وعن الخوف والألم والحزن العميق الذي يطالنا بصور مختلفة، وبرأيي الشخصي هذه الرواية جاءت مكملة للكتاب الأول (في سوق السبايا) الذي أصدرته دنيا ميخائيل سنة 2017م، وكان على شكل قصص قصيرة لبنات ونساء آيزيديات كُن ضحايا اغتصاب لإرهابيي منظمة داعش الإسلامية المتطرفة، تقول الكاتبة: «نداء عميق في داخلي دعاني إلى كتابة الرواية، ففي عام 2014 عندما عرفتُ بافتتاح سوق لبيع النساء في العراق وسوريا لم أستطع أن أصدق أن أمراً مثل هذا يمكن أن يحدث في هذا العصر وقد شعرتُ بإهانة لا مثيل لها، فذهبتُ بنفسي إلى قرى العراق الشمالية لأستكشف عن الأمر بنفسي أو ربما لأضع يدي على الجرح وكنت قد تكتمتُ على تلك الرحلة لأني لم أكن أريد لعائلتي أن تقلق عليَّ فقد ظنوا بأني كنت في الأردن في أمسية شعرية فحسب، وهناك التقيتُ بنساء كن قد هربنَ توًا من داعش، بعضهن تحدثن معي باللغة الكردية التي لا أفهمها ومع ذلك فهمتُ آلامهن بطلاقة، كتبتُ الكثير عنهن منذ ذلك الوقت بمختلف أشكال الكتابة من شعر وسرد وتوثيق، ولكن ظلَّ هاجس إبداعي بداخلي أن أكتب عملًا تخييلياً يستند إلى الواقع كمادة خام ولكن ليس بمعنى أن يعكسه كمرآة مجردة وإنما يصور الحقيقة من دون أن يفقد عنصره الفني الخالص». لكن مع هذه المأساة تسرد الرواية جوانب من الفلكلور اليزيدي فتتحدث عن عادات الطائفة اللواتي ينتمين إليها وطقوسهم وحتى أساطيرهم ك»الحوت الذي ابتلع القمر»، قبل أن تنقل عبر حكاية «هيلين» المفجعة ما حدث لنساء هذه الطائفة، على اختلاف أعمارهن، بيد من جاؤوا يوهمون العالم أنهم خلفاء الله على الأرض. ويتركز الايزيديون كمجموعة عرقية دينية قرب مدينة الموصل ومنطقة جبال سنجار في شمال العراق، وينتمون إلى أصول كردية، وقد تعرضوا لأهوال جسيمة مع سيطرة تنظيم داعش على الموصل وسنجار ومناطق أخرى. تبدأ الرواية من المنتصف وهى الذروة الكابوسية التي تعيشها »هيلين» بطلة الرواية وتتحرك بعد ذلك في اتجاهين متناقضين للزمن، الأول نحو المستقبل شديد الضبابية والألم والتراوح أيضا بينه وبين الأمل في النجاة ولم شمل الأسرة مرة أخرى وجلاء هذا الكابوس، والاتجاه الثاني نحو الحياة الماضية ببراءتها وجمالها وعفويتها واستقرارها وما يلفها من الحب، وعبر مئتين وخمسين صفحة محكية على لسان راو عليم مجهول، يدرك كل شيء ويسرد عن جميع الشخصيات، ليقتحم المجهول ويفضح المسكوت عنه من ممارسات داعش ضد سكان المدن والقرى العراقية على مدار أكثر من عشرين عاماً، منذ منتصف التسعينيات في القرن الماضي. وفي وسط تلك الشخصيات والحكايات، تعيش أسرة يزيدية صغيرة، الحب والمحنة، في قريتها الجبلية «حليقي» شمال غرب العراق، تمثلت في هيلين وزوجها إلياس وأبنائهما، الذين تعرضوا جميعاً للاختطاف والتنكيل، وانتهى بهم الأمر إلى قتل الزوج وفرار الأم وأبنائها من قبضة التنظيم الإرهابي بعد سنوات من التعذيب، ثم هجرتهم إلى كندا. حيث تستقر العائلة هناك، يتعلمون الإنكليزية، ويهرعون إلى أحضان عالمهم الجديد، لكن هيلين لم تنس يوماً أن الناس في قريتها القديمة يحاكون رقصة الطير الجريح، فيتمايلون بأجسادهم على نغمات الناي الحزينة. وفي نهاية الرواية تكرر الحدث الذي وقع لهيلين ولكن في مكان آخر خارج العراق، ففي كندا وخلال دورة لتعلم اللغة الانكليزية تعرفت على ماريو، وهو من غواتيمالا، يمر بظروف مشابهة لتلك التي كان إلياس يمر بها حيث قتلت زوجته وتركت له ولداً صغيراً. وفي الرواية وصف جميل لهذا الحدث: «أحياناً يتفاهمان بالإشارات لأنّ الكثير مما يريدان التعبير عنه لم يتعلّماه بعد باللغة الإنكليزية. فهمتْ بأنه عندما كان في الخامسة من عمره فقدَ أمّه في مجزرة جماعية. لم يستطع أن يفهم آنذاك أنّ بإمكانها أن تختفي عنه هكذا، فظلّ يبكي ويطلبها من أبيه. قال له أبوه بأنّ أمه ستعود إليه إذا استطاع أن يلصق أجزاء آنية مكسورة. كان أبوه يشتغل في محل لتصليح السيراميك. وهكذا منذ ذلك اليوم صار يأخذه معه إلى المحل ليساعده في لصق كِسَر الآنيات. كان يلصق الأجزاء بحماس وينتظر حتى تعود إليه أمُّه. رسمتْ قلباً فيه شرخ. أرادت أن تقول بأنها تتأسّف لفقدان أمّه، وأنها هي أيضاً فقدتْ أحباء لا قبور لهم لتزورهم. رسمتْ ناياً بجانب القلب. قال: أنتِ تعزفين على الناي؟ اكتفت بنعم. إنما أرادت أن تقول بأنّ جماعتها لم يدفنوا موتاهم ولم يعزفوا على أرواحهم تلك الموسيقى الحزينة التي تبدأ من لحظة رفع النعش لحين الانتهاء من الدفن». حفلت الرواية بالأشخاص والمواقف والأحداث التي شكلت عالما رحبا ينفتح على آفاق الصراع الأبدي بين الأضداد، وجميع الحكايات المسرودة عن هذه الأسرة وغيرها في الرواية لها علاقة بالواقع، كما اعتمدت الكاتبة على أسلوب الفلاش باك، وتفعيل الخيالات والأحلام من أجل إثارة الأحداث الدرامية. خالد المخضب