منذ البداية ونحن نعلم أن مهمتنا هذه المرة مختلفة عن سابقاتها؛ فهي غامضة ومحفوفة بالمخاطر ولا يمكن التنبؤ بها وربما لن نستطيع العودة منها. كما أننا نعترف أن التعليمات كانت واضحة وأننا لم نكن مخولين بالاقتراب من الكوكب المنكوب، وما كان علينا سوى الوقوف على فداحة الانفجار وتقييم الأضرار والتقاط الصور وتسجيل المشاهدات لأن ما نقلته صور الأقمار الاصطناعية لا ينقل الحقيقة بشكلٍ كامل. كل هذا نُقر به ومستعدون لتحمل تبعاته وما ينتج عنه، ولكن يجب علينا إيضاح الصورة لكم أولاً، فما حدث أوقعنا تحت تأثير الصدمة ودفعنا للتصرف وفق ما تمليه علينا ضمائرنا في ظل انقطاع الاتصال بالقيادة بسبب المسافة الكبيرة بين كوكبنا والكوكب الذي ذهبنا إليه. فعندما وصلنا الكوكب المنشود هالنا ما رأيناه. حلقنا في أجوائه وتنقلنا في محيطه ونحن ننظر إلى دماره المخيف. لم نعرف سبب الكارثة، ولكننا نستطيع الترجيح إحدى ثلاثة أمور: حرب نشبت بين سكان الكوكب وكوكبٍ آخر، أو حرب أهلية استخدمت فيها أسلحة مدمرة، أو أن نجماً سياراً عملاقاً ارتطم بأحد أطرافه فبعثر هذا الطرف ونثر حطامه في المجرة. كانت كارثةً حقيقية شاهدناها بأمهات أعيننا، فعندما أقول أنها أتت على ربع الكوكب فأنا أعني تماماً ما أقوله، لقد كان الكوكب يشبه تفاحةً مقضومة بفم عملاقٍ هائل. الكائنات التي تسكن حافة القضمة العلوية انزلقت لملايين الكيلومترات حتى تجمعت في قعر القضمة متراكمين على بعضهم فقضوا نحبهم. لم ينجُ أولئك الآخرون الذين يعيشون في الجانب الآخر من الكوكب بعيداً عن الانفجار، فقد تسببت الحادثة بخللٍ في تركيبة الكوكب مما أدى إلى انبعاث غازاتٍ سامة من باطنه وتسرب إشعاعات قاتلة عبر غلافه وانهارت أجزاء كبيرة ومتفرقة منه بفعل الزلازل واندلعت النيران بفعل البراكين التي قذفت حممها لمئات الكيلومترات. كان الموقف مهيباً ويشبه القيامة، حياة كاملة على كوكبٍ كبير تحولت في وقت وجيز إلى ركام. تلال من الجثث تفحمت أو تراكمت على بعضها بأفواه وأعينٍ مفتوحةٍ على وسعها مستنجدةً في لحظاتها الأخيرة. من لم يحترق منهم كانت جلودهم متفسخة ولحومهم متهتكة بسبب الإشعاعات التي أذابت أطرافهم ووجوههم وأحشاءهم فباتوا مسوخاً محنطة مشوهة ومتيبسة لا حياة فيها. لم نستطع التفريق بين أجناسهم فالملامح والأعضاء اختفت تماماً. لم نعرف البالغين منهم وصغار السن إلا بأحجامهم. مبانيهم، بيوتهم، شوارعهم، غاباتهم، حدائقهم، وكل كائنات الكوكب ومظاهر الحياة اندثرت وطُمرت تحت الأنقاض فتعاطفنا مع حضارتهم الوليدة التي لم يكتب لها الاستمرار طويلاً. كنا قد هممنا بالرحيل بعد تسجيل مشاهداتنا بالصوت والصورة والتقاط بعض مخلفات الكوكب العالقة في الأجواء قبل أن يستوقفنا شيء ما نقلته لنا المجسات. كان هناك حركة غريبة في قعر القضمة مما دفعنا للاقتراب من مصدر الحركة وحلقنا بالمركبة عليها وسبرنا المكان بالمناظير وسرعان ما أصابنا الذهول ما إن رأينا مخلوقاً فضائياً وحيداً من سكان الكوكب يتحرك بين الأنقاض. كان يختنق بفعل الغازات ويتخبط بأطرافه الطويلة هارباً من الحمم المحيطة به. تغطي جسده الجثث والدماء المتجلطة والمختلطة ولا يكاد يُرى من بين الجثث. اقتربنا منه فإذا به يستنجد فلم نستطع تركه. لم تسمح لنا أخلاقياتنا بذلك، لم نتمكن من تركه وسط هذا الدمار يصارع الموت وحيداً. اقتربنا من الكوكب بحذر وجذبناه باللاقط الكبير من بين الجثث وأدخلناه حجرة التعقيم قبل إدخاله إلى قمرة القيادة. ساعدنا على الاقتراب من الكوكب وسرعة مغادرته اختفاء ربع جاذبيته إثر انهيار ربع حجمه. بعدها دخل قمرة القيادة على محفة. كان منهكاً ومتألماً وتغطيه الجراح والكدمات في جميع أرجاء جسده الفضائي الغريب. وبعد أن استجمع قواه، جلس على المحفة ونظر إلينا بتعجب ومد أحد أطرافه العلوية ليتحسس أجسادنا ولكن أعضاء البعثة كانوا خائفين منه فابتعدوا عنه. الصدمة بدت واضحةً على وجهه وهو ينظر إلى وجوهنا المختلفة عن وجهه وأجسادنا المختلفة عن جسده. هز رأسه بعدها أكثر من مرة ليتأكد أنه لم يكن يحلم، ثم وقف على قدميه بصعوبة ويقول كلاماً عجيباً بلغتهم. كان صوته مزعجاً وحاداً ويثير الصداع. لغتهم تشبه إلى حدٍ كبير برطقات أو طرقعات تصدر من فمه. قلّبَ بصره فيما حوله وطالع الشاشات في قمرة القيادة ثم أصابه الرعب عند رؤيته كوكبهم المُدمر من الفضاء. أمسك رأسه والتوى على جسده وأخذ ينوح وهو ينظر إلى حجم المأساة. حاولنا عندها طمأنته وإبلاغه أننا أتينا بسلام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ولكنه لم يفهم ما نقوله. حاولنا بالرسومات والصور والشروحات وحاولنا ضبط جهاز الترجمة على لغتهم ولكن الأمر لم ينجح في البداية. ثم بعدها تحول إلى الغضب بلا سبب، صرخ فينا وأشار بإصبعه في وجوهنا مما سبب لنا الإرباك. لم نفهم ما يريده ولم نعرف ما يعنيه وعندما ناولناه الصور والرسومات ألقى بها على الأرض وداسها بقدميه وتوجه إلى قمرة القيادة وجلس على مقعد القائد وأعاد صراخه فينا بلا استثناء. تارةً يشير إلى فمه كأنه يطلب طعاماً، وتارةً يرفع يده ويحركها في الهواء كأنه يريد منا التحليق حول كوكبهم. ينظر إلينا بازدراء ويلقي أوامره علينا دون أن نفهم شيئاً فتحول الأمر بالنسبة لنا من الحيرة إلى الاستفزاز وهو يوزع علينا توجيهاته الغاضبة ويطالبنا بفهم ما يريده ولا يقوم في المقابل بأي جهدٍ لفهمنا، ولولا أننا في مهمة نبيلة نحترم فيها الكائنات الفضائية الأخرى حتى لو كانت متخلفة، لربما سحقناه بأيدينا. طلبنا منه ترك كرسي القيادة لنستطيع العودة إلى كوكبنا ولكنه رفض بإصرار وراح يصرخ مجدداً ببرطقاته غير المفهومة. وبعد محاولاتٍ مضنية، استطعنا ضبط جهاز الترجمة على لغتهم فلم نصدق ما سمعناه ولم نجد بداً مما فعلناه. فما قاله لنا دفعنا إلى التحليق على كوكبهم والإلقاء به عليه وعدنا إليكم. لم نكن نستطيع أن نفعل غير هذا. نحن نعترف أن ما فعلناه مؤسف ومخزٍ ولكنه من باب المصلحة العامة، فلا يمكن إحضار هذا النوع من الكائنات إلى كوكبنا لتفسد أبناءنا بنزعتها السلطوية وأفكارها الاستعلائية. لقد كان رغم ضعفه ووحدته يصرخ في وجوهنا عبر جهاز الترجمة: «لا بد أن تنفذوا أوامري.. أنا الإنسان.. أنا أحكم العالم».