لكل مرحلة انتقالية تجديدية في حياة أي مُجتمع صدمات المُخاض التي تسبق استقرار ما بعد نجاح وِلادة التطورات الجديدة، قد تستغرق تلك الصدمات وقتًا طويلاً أو قصيرًا قبل أن يستجيب النسيج المُجتمعي لآثار التغيير، وقد تلحظ البصائر النافذة أعراض جانبية طفيفة غير متوقعة تتطلب أخذها بعين الاعتبار قبل أن تتحول إلى مُضاعفاتٍ خطِرةٍ يصعُب التعافي منها، ولعل أحد أبرز تلك الأعراض ما يظهر على السطح من جدلٍ بشأن مصير الترابُط الأُسري بعد أن وهَبت القوانين العادِلة كُل أفرادها الراشدين نصيبهم الذي يستحقونه من حُرية في اتخاذ القرارات الشخصية وتنفيذها بعيدًا عن جورِ سُلطة أي فردٍ آخر في الأسرة ذاتها، بل وبدأ البعض بالترويج لفكرة انعدام جدوى البدء بالخطوة الأولى لتأسيس تلك المؤسسة مُتمثلة بالزواج! تلك الأفكار المُتطرّفة تنم عن قدرٍ هائل من الأنانية وشهوة التسلّط الكامنة في بعض النفوس البشرية، وهؤلاء من وُضِعت القوانين لتحرير غيرهم من بطشهم وجبروتهم وقسوة قلوبهم، لأن الأصل في الأسرة الطبيعية التعامُل من مُنطلق المودة والرحمة والألفة والدعم والمُساندة والسعي لإسعاد الآخر كي تقوى وتزدهر وتكون بتكافلها قادرة على الصمود في وجه أزمات الحياة، لا التعامُل بأسلوبٍ يُشبه العداوة والمقت والمُحاصرة والتوق لتدمير الآخر في البيت الواحد! والنموذج الأسري القائم على الترابُط والمحبة كان ومازال وسيظل موجودًا بفضل رب العالمين حتى في أكثر بقاع الأرض تحررًا لأن الحاجة له غريزة روحية للإنسان السوي نفسيًا في كُل زمان ومكان. عام 1939م عُرض فِيلمٌ درامي أمريكي مُمتع بعنوان: "قصة ألكسندر غراهام بِل"، وهو – كما يبدو من عنوانه- يحكي جانبًا من المسيرة المِهنية والحياة الأُسرية للعالِم الحاصل على أول براءة اختراع هاتف على الأرض وأدى دور شخصيته في الفيلم النجم الأمريكي "دون أميشي"، بدا من المُثير للاهتمام في مُجتمع حُر كالمُجتمع الأمريكي ذاك الوقت اعتبار الأسرة قيمة عُليا والاحترام بين أفرادها سائداً، فعندما التقى السيد "بِل" بالآنسة "مابيل هوبارد" واستلطفها قرر الزواج منها، وعندما لم يقبل والدها الزواج إلا بشروط مُحددة احترمَت قراره في الانتظار واحترم الأب قرارها في اختيار هذا الرجُل، وسعى المُخترع بكل قوته لتحقيق الشروط بينما كانت هي أهم مُصدِّق لأفكاره وداعم معنوي له، وبعد الزواج قامت الحياة بينهما على التفاهم وتقدير جهود كل منهما في التجديف بسفينة الحياة، وهو ما ساعد تلك الأسرة لاجتياز كثير من العقبات، ونيل نصيبٍ ممتاز من النجاحات المِهنية والاقتصادية والمُجتمعية، وبالبحث المُتعمق في السيرة الواقعية لحياة السيد غراها بل تُبهرنا الدلائل الصريحة والإثباتات التي تؤكد صدق تلك الأحداث في مُجتمعٍ لم يُلغِ احترام الفرد فيه قيمة الأسرة والرغبة في تأسيسها والعمل لأجلها. إن القوانين التي تدعم حُرية الفرد وخصوصيته في الأسرة الواحدة تدعم صدق العلاقة بين أفراد تلك الأسرة، تكشف عن حقيقة المحبة الصادقة من آباء وأمهات وأزواج وزوجات وإخوة وأبناء يُريدون الخير والسعادة لشركائهم في تلك الأُسر دون قيود، لأنهم واثقون مُحِبون لا لأنهم مُجبرون.