عندما انتفض الشعب اللبناني ضد الفساد، كانت ثورة 17 تشرين من دون وحدة قرار ولا هدف مشترك. تمّرد فيها الشباب اللبناني على طبقة سياسية يصفون أنفسهم بالقيّمين على وطن، ولكنها في الحقيقة مرتهنة للمصالح الشخصية لا غير، حكمت لبنان في زمن الحرب كما في زمن السلم، وقادته إلى كوارث اجتماعية واقتصادية، ما زلنا لا ندري عقباها. في ثمانينات القرن الماضي، وقفنا في صفوف طويلة في المطارات، والمرافئ، ورحلنا عن الوطن، والغصة في الصدر. لم يبقَ من ذلك الجيل إنسان إلا ورحل وخيبة الأمل رفيقاً له، وما زلنا لغاية اليوم نشاهد المأساة نفسها، انهيار اقتصادي، وأزمة سياسية لا نهاية لها. استمرت الطبقة الحاكمة بالتعالي على أوجاعنا، وأخذت من حالة النكران للواقع مبدأً وأنكرت مطلب الشعب الوحيد، وهو العيش بكرامة كباقي الشعوب على الأرض، كما استمرت بتجاهله للضغط عليه، واتهمت شباب ثورة 17 تشرين بالخيانة العظمى لمجرد مناداته بأدنى الحقوق، وهو الاستقرار الاقتصادي. واستمر نكران الانهيار بمعناه المهني، بما فيه عدم السعي لإيجاد حلول لملفات ضرورية كالأمن الاقتصادي، والإفلاس الفعلي، وحجز ودائع المصارف، إن هذه المطالب العادلة ليس لها علاقة بانتخاب رئيس أو بقانون انتخابي، وحلها سيكون بمثابة معضلة في ظل عدم وجود مؤسسات سيادية لا تعتمد على وجود رئيس أو قانون انتخابي عصري يأتي بمجلس تشريعي يفوز بقبول نوعي من الشعب اللبناني. الجميع على يقين في لبنان أن السياسة مقسمة كلٍ حسب طائفته وعقيدته - وستبقى - ولكن هذا لا يعني أن الاقتصاد يجب أن يحذو حذوه، ماذا لو فصلنا الأزمة السياسية عن الأزمة الاقتصادية، لننقذ ما يمكن إنقاذه، ونضع توجها استراتيجيا يخلق اقتصادا منتجا، فالدولة اللبنانية غنية بأصولها التي ستمكنها من خلق شراكات محلية ودولية مع القطاع الخاص، وهذا بدوره سيخلق فرص عمل، والأهم إيرادات متنوعة للخزينة اللبنانية، لقد اعتمدت السياسة العامة في لبنان، وعلى مدى أعوام طويلة مفهوم الاقتصاد الريعي الذي لم يحصن البنية الاقتصادية للمؤسسات الحكومية ذات الصلة. ومهما طالبنا اليوم بالمساعدات المالية من دول الخليج أو أوروبا فإنها لن تجدي نفعاً في غياب خطط استثمارية وطنية تقود القطاعات العامة المتعددة، والنظام المصرفي خصوصاً. إن الإصلاح الاقتصادي واجب محتم على الجميع، فالشعب واحد، واللغة واحدة، والمصالح متداخلة، والجميع متضرر، ماذا لو اجتمعنا، واتفقنا على أن نأتي بحكومة اقتصادية محضة ملتزمة بالإصلاحات، تضع بدورها ورقة عمل تتوسع بأهميتها لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، والاتفاق على الأدوات والأهداف والإجراءات الإصلاحية بعد أن يقوم ممثلو الأحزاب السياسية بتقديم ورقة عمل توضح دوافع الخلاف السياسي، والاتفاق على تجميدها إذا جاز التعبير إلى أن يتم النهوض بالدولة ومؤسساته. وبالتالي فإن التزام الحكومة الاقتصادية بالمبادئ والتوجيهات، كالاتفاق على تشخيص الوضع الاقتصادي الخطير بسبب تواتر الأزمات المتعددة، واتخاذ التدابير الضرورية اللازمة في إطار اقتصاد السوق لتطهير وإصلاح الاقتصاد مما يؤدى إلى انتعاش، وتحسن الحالة الاقتصادية للدولة، والاتفاق على ضرورة وجود سلسلة من الإجراءات النقدية والمالية والعمالية على المدى القصير، والتي من شأنها استعادة التوازن للاقتصاد اللبناني وتخفيف التضخم خلال عامين والحد من البطالة وتحسين ميزان المدفوعات. كما يجب على المصارف اللبنانية وبتوجيه من الحكومة الاقتصادية تمويل المشاريع الصغيرة، والمتوسطة من خلال تقديم القروض التجارية للشركات الصغيرة والمتوسطة لكي يتم التوزيع العادل للإصلاح الاقتصادي والمصرفي معاً. والاستثمار في قطاعات منتجة تعزز من تنمية القطاعات على كافة مستوياتها. وبالتأكيد، سيقع عبء القيام بالإصلاح الاقتصادي المنشود على عاتق الحكومة الاقتصادية، والمجتمع المدني، ومؤسسات القطاع الخاص، وإرادة الشعب قدماً من دون إبطاء أو تردد، وبشكل ملحوظ، في طريق بناء نظام نستعيد فيه لبنان جديد بجناحيه المسلم والمسيحي، وبالتالي سيكون الإصلاح السياسي ركناً أساسياً مرسخاً للاصلاح المستدام من أجل إزالة الفساد والحفاظ على سيادة القانون، والشفافية، والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وفعالية الإنجاز، وكفاءة الإدارة، والمحاسبة، والمساءلة والرؤية الإستراتيجية وهي تجديد للحياة ولصيغتها الدستورية والقانونية بما يضمن توافقاً عاماً على السياسة وتصحيح مساراتها دستورياً. إن استدامة الاصلاح الاقتصادي، وضمان تحقيق نتائجه يتطلب وجود رافعة سياسية وشعبية، تضمن قبول وحماية المجتمع له وتحوله لقيمة إيجابية لدى المجتمع اللبناني. حيث إنها ستكون فترة انتقال صعبة نحو تنويع مصادر الدخل والحداثة الاجتماعية في الدولة، وفي نفس الوقت، ستبقى هذه الأمنيات مقرونة بالأمل على أن تطال الشق السياسي الذي وبعد التجربة يشكل الضامن الرئيس لديمومة التحولات، والقبول الشعبي الواسع. ليس لكم يا شباب الوطن إلا الهدف المشترك، والكلمة الموحدة. واتركوا الدين للقلوب، فهذه هي المصلحة الوطنية الوحيدة. ولننطلق بثورة سلمية، وإصلاحية، وفكرية راقية لا هوادة فيها.