للمكتبات مع أصحابها قصصٌ ومواقف، وأيضاً طرائف وأشجان تستحق أن تروى، "الرياض" تزور مكتبات مجموعة من المثقفين، تستحث ذاكرة البدايات، وتتبع شغف جمع أثمن الممتلكات، ومراحل تكوين المكتبات.. في هذا الحوار الكُتبي نستضيف د. محمد الهاجري أستاذ اللغة العربية وآدابها في كلية الجبيل الجامعية، والذي تحتوي مكتبته على كُتب التاريخ والعقائد والأساطير، كذلك كُتب النقد والأدب وعلوم العربية، كما تتضمن رفوفها كُتب الفلسفة والسير والأمثال والأديان، وكُتب الإبداع الإنساني من القصة والرواية والشِّعر، والموروث الشعبي والرحلات، أيضاً كُتب العلوم الدينية والمعاجم والقواميس، كما تحتوي على كُتب الإدارة والتربية والتعليم والفنون الأدائية. عشقي للكتب يفقدني الشعور بالوقت * في أيِّ مرحلة تعرَّفتَ على الكتاب؟ * يبدو أن نشأتي تحت ظلال حكايات الجدات، وحداء الآباء، حفزتني لا شعورياً للشغف بالقراءة، والتعلق بالكتاب منذ البداية. وقد تعرفت على الكتاب منذ مرحلة باكرة من عمري، فقد كنت حينها في المرحلة الابتدائية، وكانت البداية بقصص الأطفال الموجودة في مكتبة المدرسة، وكنت أستعير في كل يوم قصة لقراءتها، حتى أتيت على جميع القصص الموجودة في المكتبة، فقد كانت صغيرة وعدد القصص والكُتب فيها محدوداً جداً، وكنت أعيد قراءة نفس القصص لإشباع رغبتي في القراءة ولعدم توفر غيرها فعلياً. كنت حينها أسكن في قرية صحراوية صغيرة بعيدة عن المدينة، فكنت أكتنز بعض المال من النقود المخصصة للفسحة المدرسية لشراء القصص والمجلات عندما نذهب إلى المدينة، وكان ذلك يحدث ربما كل شهر أو شهرين. وفي يوم من الأيام -وقد كبرت قليلاً- كنت في زيارة لأحد أقاربي، عندها وقعت عيناي على أول رواية تباشرها يداي، لقد كانت رواية «روبنسون كروزو» لدانيال ديفو، فقرأتها بكل تلهف وحب، وقد كانت مثيرة ماتعة، لكن كان الجزء الأخير منها -للأسف- مفقوداً مقطوعاً، فلم تكتمل المتعة وربط الأحداث إلا بعد سنوات ليست بالقليلة، فقد بحثت عنها ساعة مجيئي لمدينة الرياض، ويبدو أن هذه الحادثة هي التي زادت تعلقي وشغفي بالكتاب، وأسست لحب الحكايات والروايات. * هل تتذكر بدايات تأسيس مكتبتك المنزليَّة؟ * بدأت في جمع الكُتب والاهتمام باقتنائها بدءاً من سنوات المرحلة الثانوية، لكنها -على كل حال- بداية متواضعة، اعتمدت على الإهداء، والاقتناء من الجهات التي توزع الكُتب مجاناً، وتوسعت المكتبة بعد الالتحاق بالمرحلة الجامعية فقد أصبح لديّ حينها مكافأة مالية، مما ساعدني على الشراء والاقتناء، كما زاد الاطلاع، وتعددت المصادر المعرفية، وأصبح بالإمكان استعارة الكُتب من المكتبة الجامعية وتصويرها والاحتفاظ بها. * ماذا عن معارض الكُتب، ودورها في إثراء مكتبتك؟ * كان لمعارض الكُتب داخل المملكة وخارجها دور فاعل في إثراء مكتبتي بالكثير من المصادر والمراجع، خاصة مع تواضع مستوى المكتبات التجارية، وعدم توفيرها للكثير من الكُتب التي تقع في دائرة اهتمامي، فزرت معارض الكُتب في القاهرة والدار البيضاء ودمشق والشارقة وأبو ظبي ومسقط، وبالتأكيد معرض الكتاب الدولي بالرياض فهو من المعارض المُهمة التي أحرص على زيارتها سنوياً، وأود أن أشكر من خلالكم وزارة الثقافة على النقلة النوعية التي أحدثتها في شكل ومضمون معرض الرياض للكتاب، وعلى اهتمامها ورعايتها للأدباء والمثقفين، وننتظر منها المزيد. * ما أبرز المنعطفات التي رافقت نموَّ مكتبتك؟ * كان هناك ثلاثة منعطفات بارزة ساهمت في تغيير شكل مكتبتي وإغنائها، أولها: انتقالي لمدينة الرياض في بدايات دراستي للمرحلة الثانوية، مما ساعد على اتساع الأفق لديّ، وقربني كثيراً من مصادر المعرفة. ثاني هذه المنعطفات هو الالتحاق بالدراسة الجامعية؛ إذا ساعدني ذلك على الانطلاق الفكري، والاستقلال المالي، والقرب من منابع العلم والثقافة وهم أساتذتي الذين تتلمذت على يديهم، حيث كانوا يهدونني بعض الكُتب. أما المنعطف الأبرز الذي ساهم كثيراً في ثراء مكتبتي فهو التحاقي ببرنامج الدراسات العليا لدراسة الماجستير والدكتوراه؛ فبحكم الصبغة البحثية للدراسة كان لزاماً عليّ، العمل على توفير الكثير من المصادر والمراجع لإثراء أبحاثي، ومن خلالها انطلقت في جمع كثير من الكُتب التي كانت تقع تحت يديّ. * حدثنا عن أوائل الكُتب التي دخلت مكتبتك؟ * لعل من أوائل الكُتب التي اقتنيتها كانت رواية «روبنسون كروزو» لدانييل ديفو، وكُتب:»كليلة ودمنة»، و»ألف ليلة وليلة»، و»البخلاء» للجاحظ، و»تاريخ نجد الحديث» لأمين الريحاني، و»عنوان المجد في تاريخ نجد» لابن بشر، و»مروج الذهب» للمسعودي، و»العقد الفريد» لابن عبدربه، و»عيون الأخبار»لابن قتيبة. * هل تحتفظ في مكتبتك بمخطوطات؟ * لديّ قناعة راسخة أن المخطوطات ليس مكانها المكتبات الخاصة، بل يجب أن تكون في المراكز البحثية التخصصية، والمكتبات الجامعية، لأن قيمة المخطوطات تظهر عندما يتم دراستها وتحقيقها، وهذا لا يتحقق إلا من خلال الجامعات والمراكز البحثية، ولعل من المحزن أن كثيراً من كنوزنا المخطوطة مدفونة بين جدران المكتبات الخاصة، وقد تتعرض لكثير من التلف، لحاجتها لعناية خاصة، وأعد ذلك من الظلم لتاريخنا وتراثنا، وقد يموت صاحب المكتبة فتنتقل لمن لا يعرف قيمتها ولا يقدرها. * ماذا عن نصيب الكُتب القديمة والنَّادرة؟ * في رأيي أن مثل هذه الكُتب كنوز لا ينبغي الاحتفاظ بها في المكتبات الخاصة، بل ينبغي أن تكون متوفرة في المكتبات الجامعية أو المراكز البحثية، أو في أماكن يمكن من خلالها الوصول لهذه الكنوز؛ ولذا لم أحرص على اقتنائها، بل وأنصح من لديه مثلها أن يُهديها للمكتبات الجامعية. * هل يوجد في مكتبتك كُتب بتوقيع مؤلفيها؟ * من حسن حظي أن حظيت بعدد لا بأس به من الكُتب الموقعة من أصحابها، والمُهداة لي، وهذا شرف أعتز به دائماً، وأشكر كل من أهدى إلي عملاً من أعماله، لأن الكُتب لدى منشئيها بمنزلة الولد. * ما أطرف العناوين الموجودة في مكتبك؟ * ربما هي طريفة أو غريبة، لكن ما يهم دائماً هو المحتوى الذي يقف خلف العنوان؛ فالعناوين عتبات للنصوص. ومن تلك العناوين: «رسالة الصاهل والشاحج» لأبي العلاء المعري، و»المهماز» لجاك دريدا، و»العدمية النهيلستية» لسامي أدهم، و»الهوامل والشوامل» لأبي حيان التوحيدي، و»لغز عشتار» لفراس السواح، و»فلسفة الكراهية» لراشد المبارك، و»التوالد السردي» لسعيد جبار، و»تموز» لأنطوان مورتكات، وغيرها كثير. * هل طرافة الكتاب أو طرافة موضوعه من معايير انتقائه؟ * في رأيي أن اختيار الكتاب ينطلق من موضوعه الذي يعالجه، ومدى الحاجة إليه؛ إما لدراسة بحثية أنجزها، وإما لزيادة الرصيد المعرفي حول موضوع ما. * ما أطرف المواقف التي حصلت لك أثناء البحث عن الكُتب؟ * أتذكر في هذا الصدد موقفاً حدث لي مع زوجتي وأبنائي؛ فقد ذهبنا للتسوق في مدينة غير مدينتنا، وبعد فراغنا من التسوق، رغبت أن أزور إحدى المكتبات التجارية التي تهتم بالكِتاب الرصين، فتركتهم في السيارة، واستأذنتهم بالغياب لنصف ساعة، وأودعت هاتفي الجوال في السيارة للشحن، ويبدو أن انشغالي بالكُتب أفقدني الشعور بالوقت، فلم أدر إلا وزوجتي واقفة أمامي، وأنا أُقلب الكُتب، ففزعت لظني بوقوع مكروه لهم، وإذا بها تبلغني أن لي ثلاث ساعات في المكتبة. * ما أبرز الكُتب التي تحرص على قراءتها؟ * أهتم بقراءة الإبداع الإنساني عامة، والكُتب الأدبية، والدراسات النقدية، وكُتب السير، والرحلات، والتاريخ، والأساطير، والحضارات. * هل يوجد من قراءاتك كُتب لا تزال عالقة في الذهن؟ * القراءات السابقة تحضر في الذهن بأشكال مختلفة؛ فإما أن تحضر على شكل مقطوعات أو عبارات، أو صور بارزة، أو أنها تحضر على شكل إبداع مزيجي مختلف المشارب يُنتج نصاً جديداً يحمل دلالة متفردة. ولعل كُتب البدايات من الحاضرة في الذهن دائماً، ولو عددناها لم ننته. * كم بلغ عدد مؤلفاتك حتى الآن، ومتى صدر لك أول كتاب وما هو؟ * لديّ حتى الآن كتابان، وأعمل الآن على إنجاز الثالث بإذن الله. وقد صدر كتابي الأول «السرد والموروث الشعبي» في عام 1431ه، ومما لا شك فيه أن للانشغالات العملية دور في إلهائي عن التأليف. * هل تستفيد أسرتك من مكتبتك في إعداد بحوثهم؟ * أحث دائماً أفراد عائلتي على الاستفادة من المكتبة؛ إما في إنجاز فروضهم، وإما من باب الثقافة والفائدة. وقد شجعت أبنائي على وضع مكاتب لهم داخل مكتبتي، لتشجيعهم على القراءة، وتعويدهم على العيش بين الكُتب. * ماذا تُفضل المكتبة الورقية أم الرقمية، وما السبب؟ * لا أفضل إحداهما على الأخرى، وإن كنت أستأنس بالكِتاب الورقي، لكن مع التطور الحادث الآن في العالم الرقمي، فإن الكِتاب الرقمي هو المستقبل، وربما يُجنب الجيل المقبل معاناتنا التي عشناها في البدايات للحصول على الكِتاب؛ فأمهات الكُتب، والكُتب النادرة، والمخطوطات، يمكنك الحصول عليها الآن من خلال الوسائط الرقمية. وهو ما لا يتيسر بالطرق الورقية. * ما القراءة بنظرك؟ * القراءة سماء مفتوحة، تقربك من العالم، وتمنحك علوم وتجارب ومعارف الأولين والآخرين. القراءة فعل نبيل أسس له الباري عز وجل بقوله (اقرأ).القراءة أساس متين لكل حضارة. * ما رسالتُك التي توجِّهها لكلِّ من يملك مكتبة خاصَّة به؟ * أقول له: بارك الله في جهدك وعملك، وأوصيه بأن يتيحها لمن يريد الاستفادة منها إذا استطاع، وأن يتبرع بها للجهات العلمية البحثية، متى ما وجد نفسه غير قادر على الاستفادة منها. * كلمة أخيرة؟ * أشكر جريدة «الرياض» على اهتمامها بالمكتبات والكُتب، ودعمها للثقافة والأدب، وأشكر أ. بكر هذال على عمله الدؤوب في خدمة الثقافة والمثقفين، وعلى جهده الرائع لإبراز المكتبات الخاصة. د. محمد الهاجري متحدثاً للزميل بكر هذال