بين الحين والآخر تبوح الذاكرة بما حفلت به سنين العمر في الزمن الماضي؛ تبوح عن الذكريات الممتزجة بالحنين، والشوق، والوجد، وكلما زاد الإنسان حنيناً وشوقاً ووجداً كلما تذكر المواقف التي لها ذكرى عاطرة في حياته، أو ما يسكن داخله. وعبر صفحة «بوح الذاكرة» ننطلق إلى عوالم المُبدعين، نحاول أن نستنطق ذكرياتهم، أفكارهم، أعمالهم.. مع مشاهد ومراحل من مسيرة حياتهم العملية والمهنية.. حوارنا اليوم مع المستشار الإعلامي أ. محمد إبراهيم الماضي، للحديث عن بوح ذكرياته الشيقة والمثيرة، وعشقه للتلفزيون والصحافة، ومشواره الجميل مع الإعلام. علاقتي بالتلفزيون يحكمها الشغف والحُبّ ماذا تبوح به الذاكرة من عملك في مجال الإعلام؟ * مشواري مع الإعلام طويل وجميل، فقد أحببت التلفزيون والصحافة وكل ما له علاقة بالإعلام. بدأت محبتي وتعلقي به منذ أن كنت طفلاً صغيراً، منبهراً ومندهشاً مما يقدمه هذ الثنائي الجميل -الصحافة والتلفزيون-. كنت أقرأ الصحف والمجلات، وكنت أقرأها بنهم شديد، وأتابع التلفزيون بكل برامجه المختلفة. ولعل التلفزيون هو الذي حببني في القراءة، ومن ثم دفعني إلى القراءة. وبعد هذه المرحلة جاءت مرحلة دراسة الإعلام في الجامعة، ثم امتد هذا الاهتمام بانضمامي للعمل في التلفزيون السعودي. وخلال هذه المحطات لم أنقطع عن المتابعة والشغف بالإعلام، حتى بعد تركي للعمل الحكومي، فلا أزال إلى اليوم أواصل القراءة وأؤلف الكُتب التي تدور حوله، وأتابع كل ما يستجد على الساحة الإعلامية. ومثل هذه العلاقة التي يحكمها الشغف والحب، لا تنتهي بزمن محدد تنتهي بنهايته العلاقة. وخلال هذه المسيرة الطويلة قمت بإعداد برامج تلفزيونية مختلفة، حاز بعضها على جوائز وشهادات تقدير، ووجد معظمها صدى جيداً لدى المسؤولين والمشاهدين على حد سواء. كان الإنجاز -ولا يزال- يمثل لديّ قيمة كبيرة. وتشرفت خلال هذا العمل بالتعرف على الكثير من المسؤولين والمثقفين والإعلاميين، ما أزال أحتفظ للكثير منهم بأجمل الذكريات، وأحمد الله كثيراً أن هذه المسيرة انتهت بتحقيقي لإنجاز كبير، تمثل في تأسيسي لقناة الثقافية، والتي استطاعت خلال سنوات قلائل من إنشائها من تحقيق حضور جيد لدى المشاهد السعودي والعربي. حدثنا عن فكرة تأسيس القناة الثقافية بالتلفزيون السعودي، والذكريات التي حدثت عند بداية انطلاق القناة، وحتى توقفها عام 2018م؟ * شرفت بأن أكون مؤسساً ومديراً عاماً لهذه القناة لأكثر من خمس سنوات، وحرصنا خلال هذا العمل على أن تكون هذه القناة معبرة عن عصرها كما ينبغي أن يكون. وهكذا جاءت هذه القناة لتعكس الحراك الثقافي والمجتمعي السعودي والعربي والعالمي، وأسهمت بدور كبير في التعريف بالثقافة والمثقفين في المملكة العربية السعودية. كما حرصنا على أن تكون نافذة للمثقف السعودي والعربي على الأدب العالمي والثقافة العالمية. واهتممنا بتقديم ألوان الثقافة والإبداع الإنساني بكل تجلياتها ومفاهيمها. وفي هذا السياق أذكر أننا قد أولينا الكتاب عناية فائقة وكبيرة، باعتباره الركيزة الأولى والأساس لكل ثقافة جادة وحقيقية، فاستحدثنا العديد من البرامج أذكر منها برنامج «خارج الحدود» وكان يهتم بالحديث عن الكُتب السعودية التي تمت ترجمتها إلى لغات أجنبية، وبرنامج «الكتاب الآخر» ويهتم بالتعريف بالكتاب غير العربي، وبرنامج «مكتبات العالم»، وبرنامج «المخطوطات»، فضلاً عن متابعة الحراك الآني للكتاب في البرامج اليومية والأسبوعية، وتغطية معارض الكُتب العربية والسعودية والعالمية. في عام 2018 فزت بجائزة وزارة الثقافة والإعلام عن كتابك «التحدي.. سنواتي في القناة الثقافية»، ماذا تعني لك هذه الجائزة؟ * حقيقة إنها تعني لديّ الشيء الكثير، وأشعر بسعادة كبيرة أن أفوز بجائزة كبيرة ومهمة من بلدي، وهذه الجائزة تأتي امتداداً لجائزة أخرى مهمة سبق وأن حصلت عليها من مهرجان القاهرة الدولي للتلفزيون عام 1993م مقابل كتابتي للسهرة التلفزيونية «إعلان براءة»، وقد حازت على ثلاث جوائز ذهبية، جائزة أفضل سهرة عربية، وجائزة أفضل ممثل، وجائزة أفضل مخرج. هاتين الجائزتين منحتا لي عن عملين إبداعيين أحدهما كتاب والآخر عمل درامي. وهناك جوائز أخرى أخذتها حينما كنت أعمل في التلفزيون. ولا شك أن هذه الجوائز تأتي تتويجاً لمسيرة طويلة من العمل في مجال الإعلام والدراما، وأفخر بما تحقق لي خلال هذه الفترة من جوائز وتكريم، ولله الحمد من قبل ومن بعد. يُقال إن الكتابة قرينة القراءة، بعد هذه السنوات الطويلة الحافة بالعطاء والنجاح، وعشقك للقراءة كمستهلك، بماذا أثمرت؟ * بلا شك أن هناك علاقة وثيقة ومترابطة بين القراءة والكتابة، فأن تكون قارئاً محترفاً لسنوات طويلة سيدفع بك حتماً في الأخير إلى أن تكتب، فهذا الفيض من المعرفة والثقافة التي تم تكوينها ومراكمتها عبر هذه السنوات الطويلة من الزمن، ستكون عاملاً مشجعاً ومحفزاً على خوض تجربة الكتابة. حدثنا عن تجربتك مع الكتابة والتأليف، وجديد أعمالك؟ * جاءت تجربتي مع الكتابة، حيث قمت بتأليف عدد من الكُتب ما بين إعلامية وإنسانية، وآخرها كان كتاب «الكرسي الساخن»، وكان بحثاً عن ظاهرة صحافية في المملكة العربية السعودية، وجواباً لسؤال مُهم وهو كيف أمكن لثلاثة من رؤساء تحرير الصحف السعودية من البقاء لعقود من الزمن في منصب رئيس التحرير هذا المنصب الحساس. وقبله صدر كتاب «قصة التلفزيون السعودي» وهو تسجيل وثائقي لمراحل تأسيس التلفزيون في المملكة، وكتاب «التحدي سنواتي في القناة الثقافية»، وكتاب «فاصل إعلامي»، وكتاب «الإنسان كما أعرفه»، وكتاب «من أين نبدأ»، ولديّ الآن كتابان انتهيت من كتابتهما وهما في المراحل الأخيرة قبل الطباعة. القراءة من الأشياء الجميلة في حياتنا تنمي الفكر، نتعلم منها الكثير من الأشياء، فما القراءة بنظرك؟ * لن أكون مغالياً حينما أقول إن القراءة هي حياة أخرى، إذ لا أتخيل نفسي إلا وأنا أقرأ، منذ عرفت نفسي وأنا أقرأ بشكل يومي، منذ أن كنت طفلاً في الابتدائية وحتى اليوم وقد تقاعدت من العمل، وقد تعاظمت أهميتها بالنسبة لي، فهي الرفيق والصديق والحبيب، أجد فيها سلوتي وأنسي ومتعتي، معظم يومي يكون إما قراءة وهو الأكثر وإما كتابة. من دون القراءة بالنسبة لي تفقد الحياة الكثير من بهجتها وسحرها وألقها. القراءة هي حياة أخرى موازية للحياة الحقيقية، ونحن نقرأ كما يقول عباس محمود العقاد لكي نضيف إلى عمرنا القصير أعماراً أخرى، إذ إننا بحكم عمرنا المحدود في هذه الحياة الدنيا أعمارنا محدودة وقصيرة، وما يجعل من هذا العمر مديداً وطويلاً وثرياً هو القراءة التي تخترق الزمان والمكان، حينما فقد نجيب محفوظ الروائي المصري بصره في أواخر عمره سئل عن الشيء الذي يفتقده، فقال إنه القراءة. إنني أعتقد أن من لا يقرأ يخسر جزءاً أصيلاً ومهماً من هذه الحياة، فالقراءة إنما هي نوافذ على الدنيا والمعرفة، وفيها تجد جواباً لتساؤلاتك وهمومك، ومن خلالها تتعرف على الحياة والأحياء بشكل أوسع عبر التجارب الإنسانية التي ترد في هذه الكُتب. ما أطرف المواقف التي لا تزال في الذاكرة؟ * قد يكون موقفاً طريفاً أولا يكون كذلك، والموقف حدث في إحدى زياراتي لمكتبة مدبولي الشهيرة في القاهرة، فقد كنت أحادث صاحب المكتبة وأسأله عن عناوين محددة ولما لم يجدها في المكتبة، أخذ ينادي على أحد العاملين لديه ويطلب منه مرافقتي إلى إحدى الشقق القريبة من المكتبة والتي هي بمثابة مستودع للمكتبة ويوجد فيها الكثير من الكُتب، وبعد أن أوصلني الرجل إلى هذه الكُتب استأذن مني وانصرف وتركني مع هذه الكُتب الكثيرة. ولكثرتها فقد احترت من أين أبدأ عملية البحث، وعلى رأي المثل إذا أردت أن تحيره فخيره، فقد ذهب وقتي وأنا أبحث في العناوين وأنتقل من زاوية إلى أخرى باحثاً ومنقباً عن عنوان قد يثير اهتمامي، ومع هذه الكُتب فقد نسيت الوقت ولم أعد إلى الواقع إلا على صوت عامل المكتبة وهو يسألني عن أي الكُتب سوف أشتري. وفي هذا السياق أتذكر الموقف الذي حدث مع الأديب الإيرلندي جورج برناردوشو وقد وجد أمامه في أحد أسواق باعة الكُتب القديمة كتاباً له، وقد سبق أن أهداه إلى أحد أصدقائه، فاشتراه مرة أخرى وأعاد إرساله إلى صديقه وبعث به من جديد إلى صاحبه، في إشارة لا تخلو من مغزى. ما الكُتب التي تهتم بقراءتها في الوقت الحاضر وقديماً؟ * الحقيقة أنني أكاد أقرأ في شتى أنواع المعرفة وفنون الإبداع العديدة، غير أنني اهتم بشكل خاص بكُتب الأدب والفكر والإبداع والمذكرات والسير الذاتية وكُتب الحوارات مع أعلام الفكر والثقافة عربياً وعالمياً، وكذلك اهتم بالرواية العربية والأجنبية المترجمة، وكُتب الدراسات والتاريخ والسياسة. كلمة أخيرة؟ * ذات يوم كتب الروائي التركي أورهان باموق يقول: «قرأت كتاباً في يوم، فتغيرت حياتي كلها». وأنا أتفق مع باموق في هذا الاتجاه، وإذا كنت لا أتذكر اسم أول كتاب قراته في حياتي، إلا أنني أحمد الله أنه كان كتاباً جميلاً دون شك، بدليل أنه الكتاب الذي حببني في القراءة وجعلني في علاقة حُبّ طويلة معها منذ طفولتي ولا تزال معي في كبرى حية وثابة، ولا أعتقد أن هناك قصة أكثر جمالاً وبهاءً من مثل هذه العلاقة التي تربطك بالكتاب صانع المعرفة وباعث الدهشة وناشر السعادة. تكريم القناة الثقافية من البرامج الحوارية في القناة الثقافية