الفلسفة تعقيد لأمر بسيط لا يستحق كل ما قاله الفيلسوف عنه، لكن المهم أن هذا التعقيد ليس من الفيلسوف بل من الوجود ذاته! الحياة معقدة بشكل كبير، ويصعب جداً التعامل معها بشيء من السطحية، وكلما تعمق الإنسان فيها وطال عمره فإنه يتأكد من هذا نفسياً وحسياً، فيشعر بما يفكر فيه الفيلسوف لكنه يفتقر للتصورات التي تجعله قادراً على التعامل معها. تحليل الواقع يجعلنا نخشى من الوضوح والهروب من المشكلة، ويدخلنا في عالم الجدل الذي لا ينتهي، فنحتاج إلى منهج يقسم لنا هذا الازدحام ويفكك لنا معاسيره، فلا نملك إلا الفلسفة والنقد كي نتعايش مع هذه الدوامة المريرة. كان سقراط محباً للتهكم من قول غيره كي يولد منه تصور صحيح للقضية، فيسأله بإلحاح حتى يجعله يغير اعتقاده بنفسه، فيصوب خطأه من كلامه لا من كلام غيره، ويمكننا أن نفعل الشيء ذاته مع أنفسنا فنحاول تصحيح ما وقعنا فيه ونطوره ونتخلى عن الضار منه، لكن هذا يقتضي الصدق والأمانة مع أنفسنا، والبعد التام عن رغبات الآخرين منا، وهنا تظهر فضيلة العزلة والبعد عن ضجيج الجمع، فنعتزل الناس لنعود فننفعهم! إن الفرد محتاج إلى الخروج من سجن المكبوت، ومحتاج أكثر للخروج من سجن ضجيج الواقع وكثرة المدخلات الخارجية التي يتلقاها من الآخر، فأنت مسجون بقدر انغماسك بالآخرين، وسجنك هو تلك الصور التي تكتسبها من غيرك فتبني بها حياتك، فتحتاج ضرورة إلى البعد عن هذا الزحام بالخلوة مع نفسك وتخفيف التعقيد الوجودي، لكن هذا يجب ألا ينتهي إلى وحدتك وشعورك بكراهية الآخر أو التطرف تجاهه. أنت بحاجة إلى بلورة مفاهيمك الخاصة، ومنطقك الشخصي، وهذا لن يتم إلا بالتوسط بين الاجتماع والعزلة، وكل هذا كي تخفف من شدة الكبد الذي تلقاه في حياتك فتعود إليك نفسك، وهذا هو أعظم انتصار تحققه.