هل في الفلسفة لغز كي ينفر منها الناس؟ يرى أفلاطون أن مراتب المعرفة تصاعدية تبدأ من عالم المرئيات إلى عالم العقليات، استغراقاً في تأمل الخير المحض الذي ينبثق عنه كل شيء، إلى هنا والكلام مفهوم، فالرجل كان مؤمناً بأن الجهل لا يكمن في العجز عن إبصارنا الحقيقة، بل في تحويل أبصارنا عنها، والاستغراق في ما دونها من أمور زائفة، وهو كلام واقعي جداً، فهناك درجات في المعرفة ولا نستطيع الوصول إلى الدرجة العليا ما لم نصل إلى الدرجة التي قبلها، لذلك تجدنا نتخبط في موضوع المعرفة وكل يدعي الوصل بليلى، لأن أغلبنا واختصاراً لكل شيء، للوقت والجهد والقدرة العقلية، يريد أن يقفز في المعرفة من الدرجات الأولى إلى العليا، وهو منهج ناقص وعاجز، فالدرجات التي"طنشتها"، لم توجد عبثاً، ولكن كي تكون همزة الوصل والتدرّج حتى إذا وصلت إلى فوق لم تستغرب الموقع ولم تخافه، فلم تشعر أنك على وشك السقوط ولا سبيل أمامك سوى ادعاء القوة، حتى يأتي عليك يوماً وتصدق ادعاءك فتتصرف على أساسه. من يدّعون إيمانهم بالديمقراطية، لا يأبهون بثرثرة الفلاسفة وكلامهم النظري، مثلما صرحوا به أثناء محاكمة سقراط التي حكم عليه فيها بالإعدام، بل هم ضد الفلسفة وضد كل علم وثقافة، لأنك بالفلسفة قد تصل إلى دحض نظرياتهم التي أوهموا بها الناس، وكثيراً ما كان سقراط يجادلهم فيكشف عن زيفهم وضعفهم، ويجعلهم ينسحبون من منتصف الحوار، حتى انتهى بهم المطاف إلى اتهامه بالإلحاد وإفساد شباب أثينا، مع أن الرجل كان متديناً ورعاً، ولكن دفعه الناس للتفكّر والتدبّر حاكت حوله خطط المخططين للتخلص من قلق تنويره. فهل لجأ سقراط لتدوين حكمته على علمه بما يحاك حوله؟ على الإطلاق، لإيمانه بروحية المعرفة، ولك أن توافقه فيها أو تختلف معه، فالمعرفة في نظره تجربة شخصية بحتة وتُظلم إن أُسرت في نصوص مكتوبة، فالمكتوب في نظره هو الثابت، والثابت في عهد سقراط هو الميت، ذلك أن المعرفة عند سقراط هي في صلتها المستمرة بالواقع، وفي التعبير عنه كما هو، ولأن الواقع هو الآخر في حركة مستمرة ومتغيرة بتغيّر الأفراد وأحوال المعاش، لذلك رفض الرجل توثيق كلامه، وهو كلام ليس في مجمله دقيقاً، فأنت تستعين من علوم عصرك وفهمه وظروفه وتطوراته ما يعينك على فهم آخر ومختلف للثابت الذي وصلك، وبما أن فهمنا للثابت هو المتغيّر، فليس هناك من خوف من وجود الثابت، بل ومن الضروري وجود الثابت، إلاّ أن يأتي زمان فيجمد فيه فهمنا للثابت فنقف عنده وهنا يبدأ التخلف المعرفي. أفلاطون هو أيضاً كان يعتقد أن فلسفته تستعصي على تلخيصها بالكتابة، لأنها تجربة ذاتية، وهو رأي مردود عليه، فلولا حرص الآخرين على تسجيل قناعاتهم بالرغم من كونها شخصية لما تمكنا من الأخذ منهم والبناء على ما أخذنا، فالمعرفة ما هي سوى تراكم خبرات وتجارب، أمّا فلسفة أفلاطون بأنها ليست شيئاً يمكن تأطيره في كلمات مثل سائر الدروس الموضوعة للتعليم، ولكن بالاتصال بالشيء ذاته اتصالاً مباشراً ومعايشته حقيقة، هو كلام مبالغ فيه، فلا يصح للمرء أن يعايش كل تجربة على خطرها -ورذالتها أحياناً- كي يتخيلها، صحيح لن تكون نتيجة المعايشة كمثل من لم يعش وهذا طبيعي، ولكن على الأقل وصلتنا ملاحظات من عايش بنفسه، والباقي يقع على مدى قدرتنا على التخيّل والإدراك والتنفّس، ومن هنا يختلف وقع الأمور على البشر، فواحد يملك آلات التصور والوعي والمحاورة بكفاءة عالية، وآخر تشتكي آلاته من الصدأ، فإلى ماذا نعزو هذا الصدأ؟ إلى أصول التربية؟! إلى ثقافة المجتمع؟! إلى تكبيل روح الإنسان؟! إلى إهدار الحقوق؟! ولا أقول سوى أن مشكلات الإنسان هي نفسها مشكلات الفلسفة، وكما أن الفلسفة تبني هرمها عبر التاريخ، وعبر الأزمات الإنسانية، فهي باقية ما بقي الإنسان، ولن تنتهي إلا بانتهاء مفرزات الإنسان. [email protected]