هل يحق لنا عمل مثل هذه المقارنة بين علَم من أعلام العمارة يعرفه القاصي والداني وبين بنائين عاشوا على هامش المعرفة المعمارية ولم يتعرف عليهم من هو خارج مجتمعاتهم؟ بالنسبة لي أعتقد بأن المقارنة الحقيقية هي بين التجارب المعمارية وليست بين الأشخاص، وعدم معرفة المجتمع المعماري بالقباع، لا يعني أن التجربة المعمارية التي قدمها لا تستحق الدراسة.. لفت انتباهي التأثير العميق الذي تركه البنّاء التقليدي حمد بن قباع -الذي ولد في نجد في سدير، وعمل لسنوات في الكويت، وعاد إلى الرياض بعد أن استعادها الملك عبدالعزيز عام 1902م- على تطور العمارة التقليدية في الرياض ونجد بشكل عام، ونظمها الإنشائية ومكوناتها البصرية. وإذا ما اعتبرنا ابن قباع مجرد بنّاء يحمل في عقله معرفة عميقة بتقنية البناء التقليدية، ولم يتعلم تعليماً معمارياً ولم يحمل شهادة مهنية، لكنه كان مبتكراً ومبدعاً، واستطاع أن يعبر عن رؤية الملك عبدالعزيز في المربع الذي بني عام 1937م وغيره من قصور، وعندما نقول إنه كانت هناك رؤية معمارية غير مسبوقة فإننا نقصد بأنه كانت هناك تجربة معمارية فريدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. في المقابل، المعمار المصري المعروف حسن فتحي ولد عام 1900م، وتوفي إلى رحمة الله عام 1990م، فقد ترك أثراً عميقاً في مفاهيم العمارة الطينية بعد بنائه لقرية القرنة في الأقصر عام 1949م، أي بعد بناء قصر المربع بنحو 12 سنة تقريباً. ورغم أن تجربة المربع ساهمت في اكتشاف الطاقات الإبداعية للعمارة النجدية الطينية ألا أنها ظلت محدودة التأثير مقارنة بتجربة القرنة التي تحمل التوجه نفسه مع اختلاف البيئة العمرانية وتكويناتها البصرية وتقنياتها. ومن المؤكد أن اختلاف التجربتين ارتبط بالحضور المهني المعماري المحلي والانفتاح على الثقافة العالمية النقدية، التي حملت تجربة حسن فتحي للعالم ولم تلتفت لتجربة ابن قباع، فهو مجرد حرفي تقليدي ليس له حضور فكري نقدي خارج بلدته الرياض. من المؤكد أن تجربة حمد بن قباع كانت تتكرر في مناطق المملكة الأخرى في الفترة نفسها. في الأحساء كان هناك عبداللطيف العرادي الذي بنى قصر السراج، وكذلك مطار الهفوف في الأربعينات من القرن الماضي (قبل قرية حسن فتحي)، لكن -للأسف- واجهت التهميش المعرفي نفسه لأنها لم تكن تنتمي للثقافة المهنية المعاصرة. لقد واجه ابن قباع والعرادي وغيرهما من البنائين التحدي الكبير الذي عاشته الدولة السعودية حديثة الولادة التي كانت في توق إلى بناء مؤسسات حديثة لم تعرفها العمارة التقليدية من قبل، ونجحوا في مواجهة هذا التحدي، بل وقدموا تجارب عميقة كشفت عن النواة الإبداعية المولدة للعمارة وأشكالها وتقنياتها، وكيف وظفت هذه النواة لتمديد مجالات هذه العمارة وتفجير طاقاتها الكامنة. بقاؤها في الظل مهمشة وغير معروفة للمجتمع المهني المعاصر يعني أننا لا نزال بعيدين عن الكثير من الأفكار المؤثرة التي تحملها عمارتنا التاريخية. عندما طرحت هذه الفكرة، أقصد المقارنة بين تجربة حسن فتحي وتجربة حمد بن قباع التي كانت أقدم، وواجهت تحديات أكبر، وارتبطت برمزية سياسية عميقة، وعبرت عن رؤية الملك الموحد في وقت كان العالم الحديث في طور التشكل. قال لي الزميل: الفرق مرتبط بالعزلة الثقافية وعدم قدرتنا على الوصول للآخر في ذلك الوقت، فحتى لو كانت لديك تجربة عميقة وثرية يمكن أن تساهم في تغيير نظرة العالم للعمارة، طالما أنك لا تملك الأدوات التي تستطيع أن تُوصل هذه التجربة إلى العالم فلن يكتب لهذه التجربة التأثير. أما الأمر الآخر الذي أكد عليه الزميل هو التعليم المعماري ووجود المجتمع المعرفي الذي يحتفي بالتجربة المعمارية الجديدة، ويبدو أنه في حالة ابن قباع والعرادي لم يكن هناك أي مجتمع معرفي يفهم ويحتفي بالعمارة وبالاكتشافات الجديدة التي قدمها البناؤون التقليديون، فمن دون وسط معرفي يعمل كموصل فإن كل تجربة معمارية ستكون محدودة حتى التجارب المعاصرة، هل يحق لنا عمل مثل هذه المقارنة بين علَم من أعلام العمارة يعرفه القاصي والداني وبين بنائين عاشوا على هامش المعرفة المعمارية ولم يتعرف عليهم من هو خارج مجتمعاتهم؟ بالنسبة لي أعتقد بأن المقارنة الحقيقية هي بين التجارب المعمارية وليست بين الأشخاص، وعدم معرفة المجتمع المعماري بالقباع، لا يعني أن التجربة المعمارية التي قدمها لا تستحق الدراسة. ما أود أن أختم به هذا المقال هو أننا نفتقر للتوثيق والنقد المعماري الذي يمكن أن يساهم في بناء مدرسة معمارية فكرية سعودية ممتدة إلى الجذور وكل التجارب التي يمكن أن تساهم في بناء هذه التجربة.