سارت نواميس التاريخ بأن من بدأ شيئاً نسب إليه فضله الأكبر مهما تقدم الزمن به، ولكن الأمر اكتسى شيئاً من تداخلٍ في أمر المتون العلمية والشراح والمحشين، فمن قائل إنه لا يلحق بصاحب المتن من هو بعده، ومن ذاهب إلى أن الشرَّاح لهم إبداعهم على النص، بعكس ما يتداوله المعاصرون من أن هذا اجترار، وعن العلاقة بين هذه النصوص في القيمة والتفاضل والأسبقية يسير حديث اليوم. التراث العربي قد يكون المثال الأعلى لحضارة الشروح، فالمجاميع الحديثية شرحت شرحاً وافياً، فصحيح البخاري قد شرحه ابن رجب، وتوقف عند كتاب الجنائز وأسماه "فتح البارئ"، ثم جاء ابن حجر وشرح البخاري كاملاً في عدد من السنوات وأسماه "فتح الباري في شرح صحيح البخاري"، وأغلب الظن أنه لم يطلع على اسم شرح ابن رجب، وإلا لما أسماه الاسم نفسه، والشروح التي ألفت في سنوات طويلة، إن درست بتمعن وفحص فسيتبين لنا تطور فكر الشارح ونضجه، فابن حجر في الفتح يتأول أحاديث الصفات تارة، وتارة أخرى يفوضها، وفي موضع ثالث يطابق أهل الحديث. وغير المجاميع الحديثية هناك شروح للمجاميع الشعرية، مثل شرح الحماسة للمرزوقي، وشرح مقدمة شرح الحماسة للطاهر بن عاشور، وشرح المفضليات للتبريزي، وغير شروح المعلقات والدواوين المفردة للشعراء، فكم من شرح للمتنبي وللمعري؟! وحتى القواميس والمعاجم قد شرحت، فقد شرح الزبيدي قبل حوالي مئتي سنة القاموس المحيط كلمة كلمة، وأسماه "تاج العروس"، أما أحمد فارس الشدياق فقد لازم القاموس المحيط سنوات طويلة ناظراً فيه، فاحصاً مواده، متأملاً منهجه، وأخرج في نقده كتاباً مهماً في المعجمية العربية الحديثة وأسماه:" الجاسوس على القاموس". وقد نرى أحياناً في الشروح والحواشي من ينتقد شرحاً آخر، فهذا ابن يعيش النحوي انتقد شرح الفخر الرازي للمفصل للزمخشري، وقال في إنباه الرواة:" وأما ما زعمه الرازي من شرحه، فقد عرض عرضه للاستهزاء... فلا طريقة المنطقي لزم، ولا بالرسوم النحوية ارتسم... وجاء على صغر حجمه كثير الخطأ، وعلى سعة وهمه قصير الخطى". تعدد الشروح مظنة للاختلاف والخلاف، فمقامات الحريري لها أكثر من شرح، وشرح الشريشي المقامات ثلاثة شروح: مختصر ومتوسط وكبير، والأخير هو الذي وصل إلينا، وظاهرة الشرح المختصر والمتوسط والطويل، ظاهرة واسعة في التراث، والتفتازاني له تلخيص المختصر وله المطول، وكذلك ابن رشد الفيلسوف، له شروحات على أرسطو: مختصرة ومتوسطة وكبيرة، وقد وصلت معظمها إلينا، والشروح لا يختص بها الكتب بل الرسائل كذلك، فرسالتا ابن زيدون التهكمية والجدية قد شرحها ابن نباته المصري والصفدي، فرسالة ابن زيدون الهزلية التي كتبها على لسان ولادة إلى أحمد بن عبدوس، شرحها ابن نباته المصري وأسماها:" سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون"، ورسالة ابن زيدون الجدية لأبي الوليد بن جهور، شرحها ابن أيبك الصفدي وأسماه: "تمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون"، وابن أيبك الصفدي نفسه له شرح لقصيدة الطغرائي لامية العجم، باسم:" الغيث الذي انسجم على لامية العجم"، وقد أطال النفس فيها، وتشعب وجاء بالغث والسمين والمعذور والمحظور. والذي أراه في تعدد الشروح هنا دلالة كبيرة على تواري عقل الشارح خلف العقل الكبير المنشئ الأول، الذي يعرض آراءه وكأنما هو من أفادها بجهده، وإن كان البحث العلمي يدحض هذا الأمر، ولكن العلم في الوقت نفسه لا يمنع من هذه الثنائية الآرائية المتمازجة في الحواشي والشروح مع متنها الأول المستفاد. وهناك من يهذب النص. فلا يلخصه، بل يحذف السند وما هو مكرر، بحيث يقرأ القارئ ولا يفوته شيء، وهذا ما يسمى بالتجريد، ومن هذا الفعل ما فعل ابن وصل الحموي في تجريد الأغاني وقد حقق ونشر، وقد خدم نص الأغاني خدمة عظيمة وقربها من القراء، ومن يتكاسل عن قراءة هذا الكنز العظيم، ويأتي قوم آخرون ويذهّبون التهذيب، أي تهذيب التهذيب، كناية عن تحلية الكتاب بتذهيبه بالذهب، أي بمزيد من الأمثلة والشروح والنكت، وقد ينتشر كتاب في الآفاق ويتجادل الناس حوله، ككتاب إحياء علوم الدين، حيث أمر بحرقه ابن تومرت بالمغرب، وعلى ما في هذا الكتاب من الحث على أعمال القلوب وتزكية النفس، فيه من الأحاديث الضعيفة والمردودة، وهذا ما ندب بعض شيوخ العراق للتذييل عليه، فأخرج أبو الفضل عبدالرحيم بن حسين المتوفى في السنة السادسة بعد الثمانمئة الهجرية ذيلاً على الكتاب في تخريج أحاديثه، وأسماه:" المغني عن حمل الأسفار في الإسفار في تخريج ما في الإحياء من الأسفار"، والإحياء له تهذيب حديث أنجزه عبدالسلام هارون، أعادت طبعه مكتبة المتنبي بالدمام. وإن كان التلخيص "الحذف وترك الغث"، فقد يكون التهذيب نوع من "تلطيف النص"، أو تنعيم النص، أو استبدال الكلمات الميتة بكلمات حديثة، وإعطاء النص نوع جديد من اللغة، بإعادة إحياء اللغة. وهناك من يشرح نصوصه بنفسه، فالتفتازاني وإن كان بلاغياً، فقد كتب متناً في علم الكلام أسماه المقاصد، شرحه بنفسه وأسماه: شرح المقاصد وهو مطبوع ومتداول، وهناك ممن شرح شعره بنفسه مثل ابن عربي، شرح ديوانه ترجمان الأشواق بنفسه، وقد كتب في مقدمته أسباب الشرح. وبالإجمال تتفاوت الشروح في أغراضها، ويكون للبعد الديني أو المذهبي دور في هذا، وقد يكون الحقد والتنقيص هو المهيمن حيث يكلف ويحمل الكلام على ما يريده، ويخرجه تخريجات واهية، وفي بعض الأحيان يدمج في بعض الشروح شروح أخرى ولا يصرح بهذا، لظرف عقدي أو سياسي مثلاً، فمثلاً الشرح الشهير للطحاوية لأبي العز الحنفي أدمج فيه كلاماً كثيراً لابن تيمية دون أن يصرح بهذا خوفاً من بطش المماليك، ولم يعتبر شيوخ أهل الحديث والحنابلة في العصر الحديث أن ابن أبي العز قد أغار على كلام ابن تيمية، بل التمسوا له العذر. وأحياناً لا يكون الشرح من نتاج الشارح نفسه، بل من نتاج المرويات الشفهية المتوترة في محيط هذا الشارح وبيئته، وهذا مغفول عنه، فحين شرح الطوسي الإشارات والتنبيهات لابن سينا، فيما يروي سيد حسين نصر، لم تكن قدرة عقلية فذة للطوسي: "وإنما على أنه نتاج المرويات الشفهية التي تلقاها الطوسي من أجيال متتابعة من الأساتذة امتدت من عصر ابن سينا حتى وصلت إليه". * أكاديمية في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن