وأعني بهذا المزلق: تطبيق القواعد المنهجية لتحقيق النصوص، بصورة تخرج فيها عن الحد المعقول. فكلنا يعلم بأن القواعد والضوابط في تحقيق النصوص ما هي إلا من باب الاجتهاد، في سبيل توحيد العمل في التحقيق، ولا أدل على ذلك من وجود أكثر من منهج، وبعض القواعد في هذه المناهج متعارضة، فكل مشرف يدعو إلى منهجٍ يتبناه، ويلزم الطلاب به. والذي يعنيني في هذا المزلق أن المحقِّق إذا اختار منهجاً ليعمل على تحقيق النصوص من خلاله، فلا يتصور ان قواعد هذا المنهج محل تسليم، ولا تقبل النقاش. وإذا طالعت بعض الكتب المحقَّقة وجدت نماذج للمبالغة في تطبيق هذه القواعد، إلى درجة يضحك منها القارئ. أمثلة هذا المزلق: (1) المبالغة في ترجمة الأعلام الواردين في الكتاب، عند أول موضع يردون فيه؛ ومنهم: العشرة المبشرون بالجنة، ومشاهير الصحابة، والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن يعرفهم العوام قبل طلاب العلم، والباحثين. بل وجدت من عرَّف بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم عند أول موضع مر فيه. ويحتجون ب: أن المنهج الصحيح يقتضي ترجمة جميع الأعلام، عند أول موضع يردون فيه. ثم ماذا عساه ان يقول عن هؤلاء في سطرين، أو ثلاثة؟ مثال ذلك: ومن أغرب ما وقفت عليه محقِّق «الوجيز في ذكر المجاز والمجيز» للحافظ السِّلَفي. فقد عرَّف بالمصنِّف في مقدمة التحقيق، مثله مثل كل من يحقق مخطوطا، فإنه يعرف بالمؤلف في المقدمة. وعندما بدأ في الكتاب المحقَّق وجد في أول المخطوط: (قال الإمام الحافظ.. السِّلَفي..) فوضع عند السلفيّ حاشية قال فيها: (انظر ترجمته في مقدمة التحقيق). وهذا التعليق حشو لا فائدة منه، والقارئ يعرف ان هذا السِّلفي هو المصنف الذي عرَّفْتَ به في أوّل الكتاب. وذكره في أول الكتاب من قِبل النُّساخ، كما هي عادتهم في نسخ الكتب. وفعل المحقِّق هذا، لأن منهج التحقيق يقتضي التعريف بالأعلام الواردين في الكتاب في أول موضع يردون فيه. ومثله ما فعله محقق «المشُوف المعلم» لأبي البقاء العُكبَري حيث عرَّف بالمؤلف، وتكلم عن نسبته «العُكْبَرَي» في مقدمة التحقيق، وأعاد التعريف بهذه النسبة في أول الكتاب، لأن هذا أول موضع تمر فيه هذه الكلمة. ومن جهة أخرى فهناك بعض الألقاب العلمية مشتركة، ولكن ورودها في بعض الأماكن يُخصصها بشخصية علمية معينة؛ ومن ذلك ورود لقب «شيخ الإسلام» في كتب هؤلاء الأئمة: «ابن القيم» و«ابن كثير»، و«الذهبي»، و«ابن رجب» رحمهم الله. إنه ينصرف بدون أدنى تأمل أو شك إلى: أبي العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية رحمه الله. ومع ذلك وجدت بعض المحققين لكتب هؤلاء الأئمة، إذا ورد لفظ «شيخ الإسلام»، يعرفونه في الهامش، وأنه «ابن تيمية»، وفي أكثر من موضع من الكتاب الواحد. وهذا حشو لا فائدة منه، وتكلفٌ في تتبع الأعلام، والتعريف بهم. (2) المبالغة في التعريف بالمدن، ومنها مشاهير المدن الإسلامية، ك: الكوفة والقاهرة، والقيروان. (3) المبالغة في التعريف بالمصطلحات المشهورة والمتداولة، وشرح كل ما يراه المحقق غريباً. مثال ذلك: (أ) في إحدى طبعات: «معارج القبول» وجدت ان المحققيْن وفقهما الله وضعا حواشي للتعريف بما لا يخفى على طالب العلم. فوضعا حاشية على قوله: «وأشهد أن لا إله إلا الله»، ليعرفا بالشهادة. ووضعا حاشية على قوله: «وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً»، ليعرفا ب«محمد»، وانه مشتق من اسمه تعالى «المحمود». ووضعا حاشية على قوله: «وعلى آله وصحبه»، ليعرفا معنى «آله»، وعلى من تُطلق. ووضعا حاشية على قوله: (أما بعد..)؛ ليعرفا معناها، ومتى تأتي، ولماذا؟ وترجما في الكتاب لبعض الأعلام، ومنهم: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم. (ب) وحصل مثل هذا في: «تيسير الوصول إلى منهاج الوصول»؛ لابن إمام الكاملية، حيث إن المحقق غفر الله له وضع حواشي للتعريف بما لا يخفى على طالب العلم وخاصة ان كتابه في تخصص دقيق. فوجدته وضع حاشية على قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم»؛ ليعلل الابتداء بها، مع ذكر الأدلة. ووضع حاشية على قوله: «الحمد لله»؛ ليعلل الابتداء بها، ثم ذكر ان لحد «الحمد» عند العلماء عبارتان، وذكرهما. ووضع حاشية على كلمة: «وبعد»، وما أصلها، علماً بأن المصنف تكلم على هذه الأمور بالتفصيل مع الأدلة في مقدمة شرحه، فكان عمل المحقق تكراراً لا فائدة منه، وسبقٌ لقلم الشارح، وهو أولى من يقوم بهذا. ووضع حاشية للتعريف بالمصطلحات الآتية: «الشريعة»، «الغراء»، «المحجة»، «الزهراء»، و«الزكاة» وعرَّفها لغة وشرعا. وعند قول المصنف «وفي البخاري»، علَّق على ذلك بقوله: (قول المؤلف: «وفي البخاري»: يعني: في: «صحيح البخاري). وعرَّف بكنية «أبي القاسم صلى الله عليه وسلم». وترجم في الكتاب لمشاهير الصحابة، ومنهم: ابن عباس، وأبوهريرة، وأنس بن مالك، وفاطمة الزهراء، وترجم لمشاهير الأئمة ومنهم: مالك بن انس والشافعي والبخاري ومسلم وأبو داود. ولا ننكر جهده في تحقيق الكتاب والتعليق عليه، مع دراسة مسائله، ولكن الأمر كما ذكرت المبالغة في تطبيق القواعد المنهجية في التحقيق. (ج) قال ابن القيم في: «مفتاح دار السعادة» «2/259»: «حكى بعض العارفين ان قال: طفت في ليلة مطيرة شديدة الظلمة، وقد خلا الطواف، وطابت نفسي، فوقفت عند الملتزم، ودعوت الله». علَّق محقق الكتاب: الشيخ: علي الحلبي وفقه الله على قوله: «طفت» بقوله: «أي: حول الكعبة»، وهل تحتمل العبارة غير ذلك؟ (4) قياس المسافات بالمصطلحات القديمة، والتي لم يعد لها استخدام اليوم، ك: الفرسخ، البُرد، سيراً على الأقدام، يوم وليلة،.. الخ فماذا استفيد من قول المحقق عن إحدى المدن مُعرِّفاً بها: «تبعد عن «دمشق» مسافة خمسة أيام سيراً على الأقدام». أو «مسافة يومين وليلة» أو «خمسة بُرد»، أو «خمسة فراسخ». والمصطلح الموجود اليوم هو «الكيلومتر»، و«الميل» وقد ضُبطت المسافة بين غالب المدن والدول بدقة، ودونت هذه المعلومات في كتب جغرافيّة معروفة ومتوفرة فالرجوع إليها في ضبط المسافات أولى من تقديرها بالرجوع إلى «معجم البلدان» على أهميته. المزلق الرابع عشر: التفاوت في معالجة النصوص: وأعني بهذا المزلق: عدم اتفاق المحققين على ضوابط معينة في التعامل مع النصوص أثناء نسخها، فإننا نجدهم في هذا الباب طرفين ووسط. الطرف الأول طرف متشدد يرى عدم التعرض للمخطوط، بتعديل أو إضافة، بل يُخرج الكتاب للناس كما هو مكتوب في الأصل الذي بين يديه، ولو وجد خطأ ولو كان متيقناً منه فلا يغيره، بل يبقيه كما هو، ويشير إلى الصواب في الهامش، ويرون أن هذا دقة في نسخ المخطوط وإخراج الكتاب مطبوعاً كما هو. والطرف الثاني توسّع في معالجة المخطوط، فهو يتصرف في كل عبارة لا تستقيم معه، ولو كان لها وجه في اللغة العربية، ولها اعراب محتمل. والطرف الثالث «الوسط» يحذف ما تيقن خطأ ولا وجه له، وابقاء الصواب، وإن كان له وجه في اللغة، ولو كان هذا الوجه ضعيفاً، أو شاذاً، المهم أن له وجه في اللغة. والتدخل في معالجة النص المخطوط أمر صعب، وحرج والضابط في هذا الباب هو الطرف الوسط، ولكن تطبيقه يحتاج إلى نظرٍ، وتأملٍ، ومراجعة، والله الموفق. مثال الطرف الأول: *. وهذه الآية كُتبت في: «تاريخ الجبرتي» خطأ، حيث جاء فيها «مُهلك» بدلاً من {لٌيٍهًلٌكّ}، فأبقى المحقق سامحه الله الآية الكريمة محرَّفة، كما وردت عند الجبرتي؛ دقة منه زعم في النقل والتوثيق، ثم قال في الهامش (2): (الآية القرآنية فيها تحريف، وصحتها..) ثم ذكر الصواب. إن الخطأ في «الآيات القرآنية» احتمال وارد في المخطوطات والمطبوعات رغم حرص الجميع على «كتاب الله» وسلامة نصوصه، ويجب وجوباً شرعياً على المحقق إذا وجد تحريفاً ل: «كتاب الله» ان يقوم بإصلاحه، ولا يُشير إلى مثل هذا، ولكن إذا كثر التحريف في الآيات في النسخة التي يعمل عليها، يُشير إلى هذا في المقدمة، عند الكلام على النسخة المعتمدة، والمآخذ عليها. ويلحقُ بهذا على جلالة «كتاب الله» الأخطاء النحوية، والتي ليس لها وجه محتمل في اللغة، ولا يلزم الإشارة إلى ذلك في الحاشية عند التبديل، ولكن إذا كثرت هذه الأخطاء، وفحشت، فيكتفي بالإشارة إلى ذلك في مقدمة التحقيق. وللعلم؛ فغالب تحقيقات المستشرقين في التحقيق هو إخراج النسخة الخطية مطبوعة كما كُتبت، بعجزها وبجرها لأن المقصود عندهم اخراج النسخة كما هي، وأما ما فيها من علم، فمسألة لا تعنيهم. مثال الطرف الثاني: أمثلة الطرف الثاني كثيرة، وتخصص فيه أناس، فتصرفوا هدانا الله وإياهم في نصوص النسخ كثيراً، ومنهم: الدكتور عبدالمعطي أمين قلعجي، وكمال يوسف الحوت. ولعلّي أذكر مثالاً واحداً لمحقق فاضلٍ لبيان وجود هذه الصفة «التوسع في معالجة المخطوط» عند غير من اشتهر عنهم العبث بالتراث. قال الإمام ابن القيم في: «مفتاح دار السعادة» (2/455): (والمشاحنة في الاصطلاحات لا تنفع طالب الحق). وهو كلام واضح، ولكن محقق الكتاب الشيخ الحلبي وفقه الله حذف كلمة «مشاحنة»، ووضع مكانها كلمة: «المشاحّة»، وعلّق على ذلك في الحاشية رقم (1)، بقوله: (في الأصل: والمشاحنة!، ولعل الصواب ما أثبتُّ، فهذه الكلمة من مشاهير الكلمات المترددة في التواليف، والمصنفات.. ولكلمة «المشاحنة» وجْهٌ هنا، فلا أُنكرها». فتعجبت، وقلت: لما كان لها وجه، ولم ينكرها، فلماذا حذفها، وغيّر نص المصنِّف؟ وكان الأولى كتابتها كما هي، مادام انها محتملة، ولم ينكرها، ثم يعلق في الهامش بما يراه. والغريب ان المحقق نفسه عمل عكس ذلك في الكتاب نفسه، فقد ترك الخطأ الوارد في الأصل كما هو، وهو خطأ يقيناً، حيث قال ابن القيم «مفتاح دار السعادة» (1/368): «على ثلاث مسالك». فعلق على «ثلاث» في الحاشية رقم «3» بقوله: «كذا الأصل، والصواب: ثلاثة». وكان الأولى تعديل هذا الخطأ في النص، ولا يُشار إلى مثل هذا، لسهولته، ولاحتمال ان يكون من عجلة الناسخ، وإن أشار فلا حرج، وهذا منهج له قيمته، ولكن أن يُبقي الخطأ كما هو مع اقراره بأنه خطأ، وفي الموضع الآخر يغير النص مع اقراره بأن ما حذفه له وجه؛ فهذا مزلق خطير، يسقط ثقة القارئ في المحقق ويطرح هذا النص بهذا التحقيق. (تنبيه): بعض المحققين إذا وجد جميع النسخ اتفقت على كلمة واحدة فإنه يثبتها، ولو كانت خطأ، ليقينه بأن هذا هو ما كتبه المصنف، وهذا هو رأيه، وترك هذه الكلمة كما هي من الأمانة العلمية في التحقيق، ليقف القارئ على علم المصنف، ورأيه، ثم يذكر المحقق ما يراه في الهامش. وهذا توجّه احترمه، ولا سيما خروجه من بعض كبار المحققين نفعنا الله بهم. ولكن من حقي وأنا أكتب في هذا الباب أن أدلي برأي، فأقول وبالله التوفيق: لعل الأقرب إثبات الصواب في المتن ولو أطبقت كل النسخ على خلافه والإشارة في الهامش على ما في النسخ، ثم ذكر الأدلة الكافية على التصحيح، فغالب القراء لا يصرفون للهامش أدنى تأمل، ولا سيما الهوامش الخاصة بفروق النسخ، وذكر ما اتفقت عليه النسخ في الهامش يحقق المصلحة التي ترى تعريف القارئ بعلم المصنف، ورأيه في المسألة. وعلى كل حال لا أظن ان المُشَاحَّة في مثل هذا الاصطلاح المنهجي تجدي، ولا سيما أنَّ هذه الطريقة معروفة منذ القدم لدى العلماء، والنُّساخ، فقد جاء في حاشية مخطوط «منال الطالب» لابن الأثير هذه العبارة «قوله: (والياء في «يانع» للتسبيب)، وهم، وصوابه والله أعلم: «والباء» منقوطة بواحدة، لأنها لفظ الحديث: «وأبْعَثْ رَاعيِهَا في الدَّثْرِ بِيَانِعِ الثَّمَرِ» وهو تفسير قوله عليه السلام: «بِيَانِع»، ولم يقل أحد: الياء للتسبيب قط، ولم أر ان أصلحه، لأنه مقروء في هذه النسخة على مصنفه، وخطُّه عليها، وكان ينبغي ان تكون العبارة: «في بيانع الثمر». والله أعلم» أ.ه *«منال الطالب»، لابن الأثير ص «19»، حاشية (1)« فانظر إلى هذا الفاضل غفر الله له يعلم ان ما هو مكتوب خطأ محض، وهو كذلك، ولما كانت هذه النسخة مقروءة على المصنف، وعليها خطه تهيب من تغيير الخطأ رغم قناعته بذلك وآثر كتابة حاشية على هذه العبارة في موضعها للتصحيح. علماً بأن محقق الكتاب، وهو المحقق الكبير الطناحي رحمه الله غيَّر العبارة عند نسخه للكتاب إلى الصواب، وكتبها هكذا: (والباء في «بيانع» للتسبيب)، وعلَّق على ذلك بقوله: (في الأصل: (والياء في: «يانع»، وأصلحته كما ترى) أ.ه مثال ذلك: (1) حقق العلامة الدكتور عبدالرحمن العثيمين حفظه الله كتاب «طبقات الحنابلة»، وجاء في «1/255»: «إبراهيم بن الحجاج الشامي» فعلق في الحاشية بقوله: «باتفاق النسخ هكذا «الشامي» بالشين المعجمة، وكذلك هو في: «المنهج الأحمد»، وفي: «مختصر النابلسي «مصححان عنه. وفي مصدر المؤلف «تاريخ بغداد» «السامي»، بالسين المهملة، وهو الصحيح وإنما أبقيته لاتفاق النسخ المعتمدة عليه، فيظهر انه خطأ من المؤلف نفسه عفا الله عنه» أ.ه هذان مثالان من عدة أمثلة وقفتُ عليها، أرى فيها المحقق يُبقي الخطأ ويثبته كما هو دون تغيير، إذ ثبت لديه أنه من المصنف نفسه، لا النساخ، ويجعل رأيه وهو الصواب يقينا في الهامش تعليقاً. كل ذلك احتراماً للمصنف، وأداء لعلمه كما هو، وهي طريقة لا أنكرها، ولا سيما خروجها ممن عُرِفوا بدقة التحقيق، وممن تخرج على أيديهم الكثير من طلاب العلم الكبار، ولكني أتحفظ على هذه الطريقة. والغريب انك تجد ان هؤلاء المحققين يتحفظون على تغيير بعض ما تيقنوا من خطئه، وفي مقابل ذلك تجد جرأة عجيبة عند غيرهم في التلاعب بنصوص النُّسخ، وتغيير كل ما أشكل عليهم، ولو لم يكن مشكلا عند غيرهم، ولو كان المصنف، ويضيفون على النص الخطي، دون الإشارة، وأحياناً يحذفون الصواب، ليثبتوا الخطأ محله، دفعاً للتصحيف الذي ظنوه. كل ذلك يصير دون ضابط علمي، وكل محقق يجتهد حسب رأيه. ومثال ذلك ما فعله الدكتور: عبدالمعطي قلعجي سامحه الله في تحقيقه ل«تاريخ الثقات» للعجلي، وقد نبه إلى ذلك الدكتور: عبدالعليم البستوي وفقه الله في مقدمة تحقيقه للكتاب نفسه. بل وصل الأمر إلى ادراج ما يعرف المحقق بأنه ليس من كلام المصنف. فقد حقق: الأستاذ: كمال يوسف الحوت سامحه الله كتاب: «ذيل التقييد»، وزاد في النص زيادات غريبة، وعلق في آخر احداها بقوله: (زيادة بخط الزبيدي شارح: «القاموس»). فكما ترى:: الأمر جلي بالنسبة إليه، فهو يعلم بأن هذا النص ليس للمؤلف «الفاسي»، ومع ذلك تجرأ على وضعه ضمن النص. ومما عمله في هذه الطبعة دمج زيادات سبط ابن حجر ناسخ المخطوط إلى نص الكتاب، ضمن كلام المصنف الفاسي، ولم ينبه إلى ذلك. أخي القارئ: كلنا يعرف المخطوطات، ويعرف ما يأتي فيها من حواش، وتعليقات للنساخ، والقراء، والمُلاك. فهل تضاف هذه الحواشي والتعليقات إلى نص الكتاب؟ إن المحقق العاقل والعارف بعلم التحقيق، ينظر إلى هذه الحواشي والتعليقات، ويراجعها، ويستفيد منها، ولا شك في هذا. أما النقل منها، فإنه يتخير أنفسها، وأدقها، ويضعها في حواشي الكتاب، كما كانت هي في حواشي المخطوط، وينقل منها ما يتعلق بالتنبيه على التصحيف، أو الوهم، أو الحاق فائدة يتم بها الكلام، ولا يكثر من ذلك، والله أعلم. أمثلة لمحققين لا يبالون في تغيير ما تيقنوا من خطئه: وهم كثير والضابط عند هؤلاء هو تغيير النص الذي يكون خطأ محضاً، ولا وجه له في العربية، أما الخطأ المحتمل أو ما له وجه في اللغة، ولو كان نادراً، أو شاذاً، أو ضعيفاً، فإنهم يبقونه في النص كما هو، مع الإشارة في الهامش إلى الأصح، والأفضل. (1) قال محقق: «الوجيز في شرح قراءات القَرَأَةِ الثَّمانية» وفقه الله «ص58»: «وقعت في نص المخطوطة بعض الأخطاء اللغوية، أو حصل بعض السهو في بعض آيات نص التنزيل، فأصلحت ذلك في المتن، وأشرتُ إليه في الهامش لإيماني ان ذلك لا يجوز في مثل هذا الكتاب، ولاحتمال كونها من أخطاء النساخ» أ.ه. (2) قالت محققة: «معجم شيوخ ابن عساكر» وفقها الله «1/88»: «لم أغير في النص إلا ما لا وجه له مقبولاً في نحو العربية، وإعرابها، كأن تكون الكلمة نكرة منصوبة، وقد كُتبت بلا ألف في آخرها، فأثبت الصواب في المتن، وأنبه على ما ورد في الأصل في التعليقات، ولا أصلح كلمة من الأصل ولها وجه مقبول في العربية، ولو كان ضعيفاً بل اثبتها كما هي، وأشير إلى ما هو أولى في التعليقات» أ.ه ويبقى المنهاجان «إبقاء خطأ المصنف كما هو، وتغيير الخطأ المحض» منهجين معروفين في الساحة العلمية ولهما رواج ملموس. ولكن يبقى ل:«القرآن الكريم» قداسة خاصة، فيجب وجوباً شرعياً تغيير النص إلى الصواب إذا جاء محرفاً، ويمكن ان يدرج الشعر العربي «الجاهلي» في هذا الباب، فلا يترك اللحن كما هو. تنبيه: حول معالجة اللهجات المحلية في النسخة: بعض الكتب ولا سيما التاريخية تحتوي على عبارات بلهجات محلية «عامية» ويكون في بعض أساليبها شيء من الركاكة. فهل يحق لمحقق هذه الكتب التصرف في نسخة الكتاب، فيحول الكلام إلى العربية الفُصحى، ويعيد صياغة الفقرات الركيكة، إلى أسلوب عربي جيد. الذي يظهر لي ان ذلك لا ينبغي مطلقاً، لأن هذه الكتب بهذا الشكل تعطينا صورة دقيقة عن ثقافة العصر الذي كُتبت فيه، وتعطينا صورة فكرية عن المؤلف ومنهجه في التأليف. وتغيير النص، يحرمنا من الاطلاع على هذه الصورة. كما ان التدخل في النص مسألة غير مأمونة، وليس لها ضابط، فيختلف الذوق العربي من محقق لغيره. ثم إن لهذا النص الذي كتبه مؤلفه لذة عند القُرَّاء، وخاصة عند قراءة هذه العبارات التي جاءت «عفوية» ومن دون تكلف، لأن المؤرخين لا يهتمون أحياناً بالجانب الأدبي أو البلاغي عند صياغة الكتاب. وقد اطلعت على مجموعة من الكتب التاريخية كتبها أصحابها بدون تكلف في اللفظ، ولا سبك للعبارات، بل صاغوا الكتاب بأسلوب بسيط، وساقوا الأحداث كيفما جاءت وبأسلوبهم الخاص الذي يتمشى مع الثقافة السائدة في عصرهم. ومن الكتب التي قرأتها، وهي متوافقة مع ما ذكرت. «تاريخ الجبرتي»، و«تاريخ الفاخري»، و«عنوان المجد»، لابن بشر. وبعض «الفتاوى»، و«المسائل الشرعية» لبعض العلماء لا تخلو من هذا، لأن المفتي لا يتكلف في الإجابة، وقد يفتي السائل بما يناسب المقام، فتنقل عنه الفتوى، وتدون بالصيغة التي خرجت منه في ذلك الموقف. ولو تأملت في معلمة: «الدرر السنية» لتأكد لك ذلك. فهل سيأتي محقق ليحقق رسائل أئمة الدعوة والأعلام، فيغير في النص بحجة ربطه باللغة العربية الفصحى. إن المفتي أعلم من المحقق باللغة العربية، وقد كانت دروس النحو والصرف إجبارية لهم، ولكنه هكذا أفتى وأداء الفتوى كما هي من الأمانة. ولذلك يحترز من يحقق مجاميع الرسائل والفتاوى التي أصلها الجمع والتدوين من التصرف في الصياغة، فيفسد الفتوى، وهو لا يشعر. وبإمكان المحقق التعريف بالألفاظ الدارجة، والتي يظن انها مجهولة عند الناس فيعرفها في الحاشية. أمثلة ذلك: (1) حقق العلامة: عبدالرحمن آل الشيخ: «عنوان المجد»، وقال في مقدمة تحقيقه «1/16»: «ملاحظة: لا يخفى على القارئ الكريم اني لم أتعرض لإصلاح ما جاء في كتاب «عنوان المجد» من الأخطاء النحوية، واللغوية، والإملائية، مع كثرتها في الكتاب، وذلك محافظة مني على النص، والأصل» أ.ه (2) حقق الدكتور: عبدالله الشبل: «تاريخ الفاخري» وقال في مقدمة تحقيق الطبعة الأولى: «التزمت في هذا المنهج منهج التحقيق الآتي: المحافظة على ما ورد بالنسخة المنقولة بخط عبدالرحمن بن محمد بن ناصر، ولو انه مخالف للقواعد اللغوية، والنحوية، والإملائية الصحيحة، تحقيقاً للأمانة العلمية» أ.ه وقد عجبت عندما خالف المحقق «الشبل» هذا المنهج، حيث قال في مقدمة الطبعة الثانية «ص7»: «وتمتاز هذه الطبعة عن سابقتها بأمور، أذكر منها: كتابة هذه الطبعة باللغة العربية الفصحى بخلاف السابقة التي نُشرت حسب ما كتبه الناسخ مع ما فيها من أخطاء نحوية، ولغوية، وإملائية، مع المحافظة على أسلوب المؤلف» أ.ه وكأنه أراد بالجملة الأخيرة «مع المحافظة على أسلوب المؤلف» انها ضابط منهجي لمن أراد تبديل نص النسخة الخطية. وقبل الختام أحب ان أنقل للقارئ كلاماً نفيساً للمحقق الطناحي رحمه الله، يتعلق بهذا المزلق، حيث قال في مقدمة تحقيقه ل:«منال الطالب» «ص46 48»: «في أثناء عملي في تحقيق الكتاب، وقعتُ على طائفة يسيرة من الأخطاء والأوهام، كنت أحبُّ ان أردها إلى غفلة الناسخ وحده، فإن الهجوم على تخطئه الأوائل، «نمط صعب ونمط مخيف»، ثم هو من التقحم المزري بصاحبه، ولكن ماذا نصنع والنسخة قد قرئت وصححت من أولها إلى آخرها على مصنفها رحمه الله، ومهما يكن من أمر: فابن ابن الاثير بشر، يجوز عليه ما يجوز على جميع البشر، من السهو والنسيان، وسبحان من تفرد بالعصمة، وتنزه عن النقصان. «ثم ذكر أمثلة لهذه الأوهام، مع ذكر الصواب فيها.. وقال بعد ذلك»: وقد كدت ان أكمل الكلام بما ترى، ولكني آثرت ان أتركه على ما هو عليه، وأعلق في الحاشية، اقتداء بهذا العالم الذي كتب في حاشية الكتاب معلقاً على وهم في الحديث الأول فقال: (ولم أر أن أصلحه، لأنه مقروء في هذه النسخة على مصنفه، وخطُّه عليها). (وقد وقفت على أوهام أخرى، نبهت عليها، تراها حين تأتي قراءتك على الكتاب إن شاء الله) أ.ه المزلق الخامس عشر: التَّسَاهُلُ في إعادة الصِّيَاغَةِ العِلمِيَّةِ: وأعني بهذا المزلق: ان بعض المحققين يدون عبارة أو جملة في كتابه، ثم يستجد له جديد، فيضيف الجديد مع بقاء القديم، والذي لم يعد لوجوده داعٍ، والغريب ان الكتاب لم يطبع بعد، فإذا طُبع خرج بهاتين الجملتين «الناسخ والمنسوخ»، ولا أعلم السبب في ذلك. أمثلة ذلك: (1) ما جاء في مقدمة الدكتور: باسم الجوابرة وفقه الله ل:«كتاب السنة» لابن أبي عاصم «1/26»: أروي هذا الكتاب إجازة عن شيخي الشيخ المحدث: حماد بن محمد الأنصاري شافاه الله وعافاه..» أ.ه ثم قال في الحاشية: «توفي شيخنا رحمة الله عليه بالمدينة النبوية، يوم الأربعاء 21/6/1418ه». وعليه، فقد كتب المحقق وفقه الله المقدمة في مرض شيخه، ولكنه عندما قدم الكتاب للطبع كان الشيخ قد توفي، فكان عليه ان يختصر قائلاً: «أروي هذا الكتاب إجازة عن شيخي الشيخ المحدث حماد بن محمد الأنصار رحمه الله ت «1418ه» وله ان يذكر في الحاشية تاريخ موته تفصيلا، وشيئاً من حياته ان اراد وهذا من بر التلميذ بشيخه، بل أقل ما يمكن ان يكون رد لجميله. (2) وأعجبُ من هذا ان بعضهم يخرج الحديث، ويخلص بعد كلام طويل بأن الحديث ضعيف.. ثم يعقب بعد ذلك بقوله: (هذا ما قلته من زمن، ثم وقفت على شاهد قوي عند الخطيب في «تاريخه»، فالحديث حسن إن شاء الله». كل ذلك في مسودات الكتاب، ولا حرج فيه إن شاء الله، ولكن العيب ان يخرج الكتاب مطبوعاً بهذا التعقيب. وكان بإمكانه عند تبييض الكتاب وطبعه تعديل العبارة، وحذف ما عدل عنه، فيختصر الطريق على الطابع والقارئ. ورأيت في أحد الكتب هذه العبارة: (وعون ابن الخطاب هذا، لم يذكر فيه البخاري جرحاً ولا تعديلاً، وكذا صنع ابن أبي حاتم «3/1/386»، ولعله في «ثقات ابن حبان»، فإن يدي لا تطوله الآن» أ.ه ثم كتب حاشية على قوله: «ولعله في «ثقات ابن حبان»، فإن يدي لا تطوله الآن، قال فيها: «ثم رأيته فيه «7/279». وكان بإمكانه ان يصيغ هذه الفقرة بعد اطلاع على «ثقات ابن حبان» من جديد، فيقول: «وعون هذا، لم يذكر فيه البخاري جرحاً ولا تعديلاً، وكذا صنع ابن أبي حاتم «3/1/386»، (وهو« في «ثقات ابن حبان» )«7/279» أ.ه والأمثلة على هذا كثيرة. واستودعكم الله تعالى إلى لقاءٍ آخر في الحلقات القادمة إن شاء الله عن مزالق التحقيق.. للتواصل: ص.ب 103871 الرياض 11616