حينما أذهب إلى الإسكندرية؛ لمواصلة دراستي ودوراتي العلمية من حين إلى آخر أُحب جداً أن أستقلَ (التُرام) في تنقلاتي، وعندما أبوحُ لأصدقائِي بهذا السِر تستوقفهم الدهشة، وفي الواقع لا أجدُ لحيرتهم غرابة أبداً؛ لأنهم ينظرون إلى الجوانب المُظلمةِ في الترام فقط. إذ إن (الترام) قِطار ذو كراسي غير مُريحةٍ، صُنِعتْ من حديدٍ أملس، أفلحَ الحدّاد في جعل الاستقامة جسدا لها، فزواياها قائمة، لا مكان لظهرك المُنهك أن يستلقيَ بمرونةٍ عليها، أو ينال قِسطاً من راحة عاجلة لبعض الوقت. وقد لا تظفرُ بكرسي فيه، على الرغم مِن أنك تُهرولُ إليه؛ ظناً منك أنك ستحضر قبل الآخرين، فتفوز بقصب السبق! وفي النهاية تضطر للوقوفِ حتى تصلَ إلى محطتك، وقد لا تصل إليها إلا بعد خمسٍ أو تسعٍ أو خمس عشرة محطة، وهذا يُهدر وقتك، ومن الأفضل أن تُبكِّرَ بالخروج قبل موعدك بساعة؛ كي تصلَ في الموعدِ المُحدد، وأنت يدك على قلبك! فالوضعُ فيهِ غير آمن؛ إذ قد تُسرق فيهِ بكل سهولة، ومن دون أن تشعر بذلك؛ بسبب الازدحام، والسبب الأهم (الفهلوة) خِفة اليد والخِبرة فيها! لن تُحسَ الاطمئنان فيه؛ إذ قد ترى بِأمِّ عينيك عدداً كبيراً من النزاعات بين (الكُمسري) والمتسولين الذين يرفضون دفع الربع جنيه على ضآلته ، وفي مثل هذا الموقف عليكَ أن تلوذَ بالصمت، وتطوي كشحا عنهم، كي لا يلمزوك، أو يدفعوا قدمك إلى نزاعٍ، لا تعرفُ لهُ نهاية من بداية! وقد يلزمُك تكلف الابتسامة في وجوههم العابسة الغاضبة؛ كي لا يظنوك مُوافقاً على ما يحدث، أو طرفاً في النِزال، وعلى كلِ حال فلن تخسرَ شيئاً، فالابتسامة في وجه أخيك صدقة. وباعتقادي وعن تجربة أنّ ادّعاء الغباء أو الصمم هو أفضل الحلول؛ للنجاةِ بروحك الزهيدة عندهم. إضافة إلى صخب القِطار الذي يوقظك من سكينتك بلا هوادة؛ لذا لا تظن أنك ستستمع إلى موسيقى هادئة، أو أصوات دافئة، أو حتى هدوء عابر ينقلك إلى راحة خاطفة! أمّا أبواب القِطار فقد قطعتْ عهداً مع الناس أن تكون مفتوحة لهم دائما، لا تُغلَق في وجوههم أبداً، حتى أثناء سيرها المُتقطع المُرعب! وعلى ما في ذلك من خطورة، إلا أن المُراهقين يستقلونه قفزاً من منطلق أنه رياضة جديدة رائعة، يتفاخرون بها! وقد شاهدتُ أكثر من مرة سقوطاً لِنساء أو فتياتٍ من الباب؛ بسبب الازدحام، أو الوقوف المفاجئ! والجو العام في (الترام) مأزوم، حيثُ تشعر بأن الكل متوتر، قلق، خائف، والوجوه واجمة؛ لأنّ الفئات الموجودة فيه هم من الطوائف الكادحة التي تستمر في العمل ساعاتٍ طويلة؛ لتحصل على قوتها اليومي، فيبدو على وجوهها الإرهاق والكدح والمعاناة، أما التجاعيد فخطتها الشمس بكل جرأة على ملامح أصحابها. لا يمر (الترام) على مزارع وبساتين خضراء، أو حدائق ومشاهد جميلة، لكنه يمر بك على أماكن سكن الناس البسطاء، حيثُ الأماكن الرديئة والبيوت المتهدمة، والأحياء القديمة المتهالكة التي تصرخ ألماً، وتئن ضجراً من الحياة التي سُلبت منها، وهي في آخر عهدها ترنو إلى التجدد، ولكن: لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيا، ولكن لا حياة لمن تنادي هل ترى شاعرنا نظمَ هذا البيت في مناسبةٍ كَهذهِ! وفي طريقك قد تُصيبك الدهشة أو الحيرة؛ لأنك من الممكن أن ترى أيّ مشهدٍ يتجاوز أدنى حدود النظافة، أو قواعد اللياقة الاجتماعية، أو أسس الورع الديني! لن تتمتعَ في (الترام) بحريةٍ شخصيةٍ، مثل تلك الحرية التي تحصل عليها وأنت في سيارة الأجرة، أو سيارة السائق الخاص، فأنت مُراقبٌ مِن الجميع، وعليك أن تكون مُتحفظاً قدر الإمكان، ولاسيّما وأنت غريب عن هذا المكان! ومع ذلك فأنا أعشق هذه الوسيلة عشقاً يجعلني أخرجُ قبل موعد محاضراتي بسويعات؛ لأعيشَ مع العامة والشخصيات البسيطة، وأحس معاناتهما، وأنال خِبرة كافية من الحياة، وأفهم شرائح الناس جميعها! يتسنى لك وأنت فيه أن تُصغي إلى أوجاع الناس، أو أحوال السيدات اللواتي يتجاذبن أطراف الحديث عن غلاء الأسعار، أو الخلل الوظيفي، أو انتخاب المرشح الفلاني، أو سوء نية المدير الفلاني، أو عادات العيد، أو طوائف المجتمع، أو نتيجة مُباراة الأمس، أنت ترى المسيحي واليهودي والمسلم في مكان واحد، يتقاسمون اللقمة والهواء والمكان والحاجات، ويتبادلون المنافع بكل ود واحترام. أجدُ متعتي في تأمل البشر، وطوائفهم المتباينة، واختلاف مشاربهم وألفاظهم، بل وأخلاقهم، هي حياة أخرى متجددة. أنت تقف وعليكَ أنْ تستمع فقط باهتمام؛ لتعرفَ أنّ لكل شيء سبباً وعِلة، وتقتنص العِبرَ، وتدرك كيف تسير الحياة في بلد غني أهلهُ فقراء؟! إضافة إلى أنك تطلّع على لهجاتٍ مختلفة في بلد ثقافي، تجد فيه جميع الجنسيات، يحملون ثقافات مختلفة ولغات أخرى، لم ينسوها بعد حضورهم من بلادهم! ومع أن الكل يتحدث اللهجة المصرية بطلاقة، وأنت تعرف ذلك إنْ بادرتَ أحدهم بالسؤال عن شيء فقط، أما إنْ تركته يسترسل بالحديث مع طفلِه أو أسرته، فأنت ستستمع إلى شريط سينمائي مؤثر، يصف وجع عائلة تحمل جنسية أخرى! في الحقيقة إنني أحيا رحلة مجانية، لا تكلفني غير الإصغاء والتأمل والنظر، أعودُ بعدها بمئاتِ الأسئلة والأفكار، وقد أجدُ لكثير من أسئلتي إجابات شافية عند أصدقائي، وأخرى غير معروفة الجواب! لكنها تُثيرُ فضولي الدائم الباحث عن الحقيقة. * كاتبة وناقدة أدبية resize.jpg