إنّها تُشرّع للمقود أن يكون قائداً! فيكون الأبناء نُظراء لآبائهم «فلا يعودون يحملون لهم احتراماً ولا رهبة»، والتلاميذ كأساتذتهم، والصغار كالكبار «يُنازعونهم في الأقوال والأفعال» فيضحي الكبار «يُشاركونهم لهوهم ومرحهم ويقلدونهم حتى لا يظهروا بمظهر التسلط والاستبداد» رغبةً منهم في إرضائهم.. يختلف الناس في تفسير أحداث الحاضر، ويتفاوتون في تحديد أسبابها وعللها، وهم عاشوها واصطلوا بنارها، ورأوا بيادقها، وسيكونون في أحداث الماضي أشد اختلافاً وأعظم افتراقاً، فهي أحداث نُقلت على بساط لغوي، وأُخذتْ منه إلى غيره بالترجمة، وكان أهلها الذين نُقلتْ عنهم مختلفين فيها، فهذه أمور ثلاثة، تجعل الوهل في درك الماضي أشد منه في وعي الحاضر والعلم به، وكما هي العادة في كل شيء، فريقٌ كذا وفريق هكذا. سقراط وتلميذه أفلاطون لم تصبر عليهما الديموقراطية اليونانية، انتهت بالأول إلى تجرّع السم، ورمت بالثاني في مرات عديدة خارج حدود الوطن، اضطرته أن يترك نصيحة أهل بلده، ويُهدي ما عنده إلى غيرهم، وكذا فعلت بتلميذه ثالث الثلاثة ورأس الحربة الفلسفية والعلمية الأستاذ أرسطو! هذي إحدى الروايات التي حُكيت لدى الباحثين، وكان لها منهم مؤيدون، ومنهم هذان اللذان سيجري حولهما الحديث الآن. يحكي الأستاذ سينيكا، وهو فيلسوف رواقي روماني، انتهت حياته كما تصرّمت حياة سقراط، وكانت حياته في إبّان الدولة الرومانية، في كتابه (محاورات السعادة والشقاء) عن سقراط أنّ: "أثينا قتلته في محبسه، ولم تتحمل الحرية حرية الرجل الذي أثار بسلامٍ حشد الطغاة". وهذا المعنى نفسه أورده الأستاذ أحمد لطفي السيد في مقدمته لكتاب الأستاذ أرسطو (علم الأخلاق) قائلاً عن الأخير: "اتهمه أهل أثينا بالزندقة والمروق... فهاجر أرسطو من أثينا" حتى لا يجني أهل أثينا على الفلسفة جناية ثانية". لم تستطع الديموقراطية، وهو رأي يذهب إليه مع الباحِثين المتقدمين بدوي في موسوعته حين حديثه عن أفلاطون قائلاً: "جاء بعدهم الديموقراطيون... وهم الذين دبّروا محاكمة سقراط"، ولم يستطع الديموقراطيون الصبر على مَنْ يُناوئ نظامهم وينتقد فكرتهم، فكادوه وأثاروا الناس عليه، ورموه مع الخلاف السياسي بالخلاف الديني، فأطبقت عليه الأمور، وكانت نهايته القتل، أو التشرد والهرب، وما جرى لهؤلاء الثلاثة، وهم أرباب الفلسفة الأُول، يُثير سؤالاً حول موقفهم من الديموقراطية الذي جعل أهلَها لا يصبرون عليهم ولا يُطيقون بقاءهم. من طريف أخبار سقراط وغرائبها؛ أنّه انتقد الديموقراطية، ووجّه لها نقداً لاذعاً، حكاه عنه أفلاطون في (الجمهورية) وهو نقدٌ يغفل عنه كثيرٌ ممن نادوا بها بيننا، وهم في ظني لو قرؤوا ما قاله، ووضعوه بجوار ما يرونه فيها؛ لكان لهم رأي أقل تطرفاً وأهدأ صوتاً، أو على أقل تقدير حسبوا ما حسبه فيها وفطنوا لما تخوّفه منها، ودونكم بعض ما قاله وشيئاً مما خافه. يبتدأ أولاً سقراط حديثه عن الديموقراطية قائلاً: "إن المرء في مثل هذه الدولة يكون حراً، وأنّ الحرية تسود الجميع، فيُصرّح لكل فرد بحرية الكلام، وبأنْ يفعل ما يشاء"، ثم يلخص إلى ما يجرّه ذلك قائلاً: "حيثما تسود الحرية، فمن الواضح أنّ في وسع كل شخص أن يُنظّم طريقته في الحياة كيفما شاء"، ثم يُعقب على ذلك بما يقول به كثير من الناس اليوم في مثل هذه الحياة التي تقودها الديموقراطية، ويقود الناسَ إليها دستورها، قائلاً: "وهكذا يبدو أن هذا الدستور كما لو كان خير الدساتير؛ إذ إن الحكومة أشبه برداء مرصع مختلف الألوان، وفيها يحتشد أناس من شتّى الطبائع، وهكذا تبدو هذه الحكومة أفضل نظام ممكن في نظر الكثيرين". وهو بعد هذا التقرير للحال التي يكون عليها المواطنون في الديموقراطية، يعود إلى نقدها، وبيان أخطارها، فيكون أول شيء ذكره أنّها "تطأ بأقدامها" قواعد التربية التي رُسمت للدولة، ومنها أن المرء لا يغدو صالحاً "ما لم يعتد الأمور الصالحة منذ نعومة أظفاره"، والديموقراطية بفتحها باب الحرية على مصراعيها تقود الناس في التربية إلى خلاف هذه القاعدة المقررة، وما دمنا، والحديث ما زال للأستاذ سقراط، نُؤمن جميعاً أنّ الصلاح صعب وعسير، وأن المرء ما لم يُحط بما يُساعده على صلاح نفسه، فهو منساق وراء أهوائه ورغباته؛ فلا غرابة أن يختم حديثه عنها قائلاً: "كل هذه القواعد تطؤها الديموقراطية بأقدامها"! ثم يأتي بأمر عجبٍ، في نفس كل إنسان مهما كان نُكرانه واستغرابه، يعيب به الديموقراطية تارة أخرى، وهو أنّها تُشرّع للمقود أن يكون قائداً! فيكون الأبناء نُظراء لآبائهم "فلا يعودون يحملون لهم احتراماً ولا رهبة"، والتلاميذ كأساتذتهم، والصغار كالكبار "يُنازعونهم في الأقوال والأفعال" فيضحي الكبار "يُشاركونهم لهوهم ومرحهم ويقلدونهم حتى لا يظهروا بمظهر التسلط والاستبداد" رغبةً منهم في إرضائهم! فيقع القادة في شَرْك العبودية "فالتطرف في الحرية لا يمكن أن يؤدي إلا إلى التطرف في العبودية" هذا قوله بالنص. فيجب أن تعلم الديموقراطية، ويعلم الديموقراطيون، أنّ سقراط الذي أسفوا لقتله، وترحموا عليه، وعجبوا من نهايته؛ لم يكن سوى قتيل هذه الديموقراطية ورجالها في تلك الحقبة.