علينا أن نقرر سلفاً أن خطاب المقابر مسرحياً عمل معقد في عمقه لأنه يتعامل مع معانٍ مجردة وأخلاقيات معلّبة فما هو مؤلم لنا مثلاً هو مبهج للحفّار -هذا على الصعيد الأخلاقي، أما على الصعيد المكاني فالمكان موحش وكئيب وصامت في ظاهره لكن في العمق هناك عوالم ومجاهيل لذا هذا النوع من العروض يمكن وصفها بالاختبار وبالمحك الحقيقي لقدرات المخرجين حيث لا يمكن إنتاج مشهدية عن هذه العوالم بسهولة أو بشكل عابر. والمعالجة المسرحية تحتم إنتاج عرض يكون بمثابة لوحة كبرى تتحرك فيها الشخوص متصلة بما يحكمه عالمها وربطه بعالمنا وهنا الحاجة لخيال بارع يقارب هذا العالم، وتتعقد المهمة حين تتطلب الفرجة إنتاج خطاب المتعة المنبثق من براثن الألم والوحشة فيما تتطلب الدرامية إنتاج صراع وحركة من قلب عالم يسقط في السكون والصمت، ما يعني الحاجة إلى قدرة هائلة على استبطان تلك العوالم وإنتاج معنى قادر على الإقناع ولا يسقط في التهويم. في عرض (قصة حب) لجامعة الملك سعود الذي احتضنه مسرح كلية البنات بجامعة جازان ضمن فعاليات مهرجان مسرح الجامعات السعودية لم تمنع ظلامية المقبرة ولا رمزية الحفار المقترنة بالسوداوية والوصولية والسادية من تسريب المتعة لجمهور وحضور المهرجان ليهب حضور المهرجان قدراً من الفرجة التي تولدت في جنبات مقبرة. ما يسترعي الانتباه هو شيوع خطاب المقابر لدى المسرحيين السعوديين مؤخراً وهي حالة جديرة بالتأمل والدراسة حيث كتب المسرحيون السعوديون العديد من النصوص التي تمتح من عوالم المقبرة وهنا ينتصب السؤال: ما المغري في عالم المقابر؟ هل لأنه عالم ملتبس؟ أم لأنه يتجاوز كون المكان مجرد سور يحتضن مجموعة من القبور ثم عالم من الصمت والوحشة؟ فهناك ولا شك عالم (لا مرئي) محرّض ويثير رغائب الاكتشاف. النص الذي كتبه فهد الشهراني كان قصيراً ومقتضباً بحوارات مكثفة هذا القصر ربما مثّل إغراءً لمخرج مثل تركي باعيسى عرفناه بتجربه إخراجية يمكن لنا أن نصنفها بأنها تنحو باتجاه (عمليات الهدم والبناء) ولي أن أقول إن قِصر النص الشديد كان بقدر ما محرضاً وذريعة للمخرج نفذ من خلالها نحو خلق مشهدية بصرية تجسد حال حفاري القبور. أتوقف هنا عند تناص العرض مع مشهدية هاملت لشكسبير في (حفاري القبور) حيث عبثية حواراتهم واللاجدوى من أفعالهم غالباً في ظل المحاولات الدؤوبة لقتل الوقت كما اتضح من الحوارات أن الثقة بين الشخصيات غائبة. الممثلان سعود المقحم وعبدالله القحطاني في أحايين كثيرة راوحا بين الهدوء والعنف وكانا متجدّدين على الخشبة بأسلوب قادر على قطع الطريق على الملل والرتابة. جاء العمل على عدة مستويات حيث حمل قدراً معقولاً من شاعرية النص فيما تطويعها بصرياً جاء موفقاً من خلال اللغة الإخراجية التي ساهمت في نقل المضمون الحقيقي للمسرحية والتعبير عن حالات اليقين المطلق واللاجدوى والعبثية التي يعيشها حفارو القبور. إذا ما آمنا أن هناك مواصفات خاصة لمن يمتهن اللعب مع الموتى فإنه كان يمكن أن يكون الاشتغال على شخصية الحفار لتتقاطع مع كثير من الصور التي جاءت لتصور حفار القبور على أنه شخصية تفتقر للإنسانية وأنها شخصية سادية تستمتع بآلام الآخرين انطلاقاً من اختلاف المعايير حيث الموت لنا حزن فيما هو للحفار مصدر رزق وبالتالي للموت معاني الفرح والبهجة. جاءت المسرحية بتوليفة معقولة، توفرت فيها كثير من الأدوات والعناصر التي وظفها المخرج تركي باعيسى؛ لإبراز ثيمة العرض المتمثلة في أن من الحب ما يقتل حيث الحفار الشاب قتل أخاه لمجرد أنه يحبه بجنون فيما كان شقيقه يعانده دوماً لتتجسد حقيقة أن بعض الانتصارات هي في النهاية هزيمة وأن من يتشدق بالدقة المتناهية يفاجئنا بأنه في أبسط الأشياء غير دقيق (الحفار الذي كان يؤكد أن كل شيء مرتب له بدقة يفاجئنا بأن موعد وصول الجثة للمقبرة في الغد وليس الآن). فيما يخص السينوغرافيا جاء السواد ليجسد أجواء المقبرة ولكن كمقترح جمالي ربما كان على المخرج ترك الخشبة على سجيتها دون اللجوء لمتممات فالمسرح دوماً يقترن بالخيال ولو ترك المخرج لخيال المتفرج مساحة لكي ينتج مادته من خلال تصميم تفاصيل المكان في مخيلته، ولكن حضرت الحقائق بشكل أحدث شيء من الفجاجة المشهدية كما في تجسيد (شواهد القبور مع ثباتها طوال الوقت على الخشبة الذي أحدث شيئاً من الرتابة وسرّب الملل للمتفرج). حين الحديث عن الإضاءة نجد أن أهميتها تتصاعد في هذا النوع من العروض التي تتخذ من المقابر فضاءً لها فهي بمثابة الشخصية الثالثة على الخشبة في عروض الديودراما، لأنها يمكن أن تكون دالاً على المكان (مقبرة)، ويفترض أن يتبين من خلالها الخيط الأبيض من الأسود وأن تأخذنا إلى عمق أجواء المقبرة وأن تقحم المتفرج في لجّة الحالة الذهنية والنفسية للممثلين. وقد كانت الإضاءة في عرض قصة حب حاضرة كمكون دلالي وجمالي رغم كثافة استخدامها ما جعل بعض حضورها فائضاً. في حين كانت الموسيقى خطاباً يتماهى مع المشهدية في كثير من المشاهد لكنها في مشاهد أخرى كانت محرّضة على التساؤل؛ ولأن المسرح فن التساؤلات اللامنتهية فإنني أتساءل هل أغنية لفيروز مثل (تلج تلج عم تشتي الدنيا) صالحة للتماهي مع خطاب المقابر؟ وإجمالاً يظل مثل هذا التناول جاداً وقد جاء بالكثير من الإقناع وجالباً للكثير من المتعة.