خام برنت يصعد 1.3% ويصل إلى 75.17 دولار للبرميل    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    6 فرق تتنافس على لقب بطل «نهائي الرياض»    ناتشو: كنا على ثقة أننا سنفوز على النصر    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    استقالة مارتينو مدرب إنتر ميامي بعد توديع تصفيات الدوري الأمريكي    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    دوري روشن: التعادل الايجابي يحسم مواجهة الشباب والاخدود    الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عروض المسرح الطليعي تنجِح "أيام قرطاج" . تمزقات جحا الفلسطيني وتهويمات رجاء بن عمار
نشر في الحياة يوم 13 - 11 - 1995

من "مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي" إلى "أيام قرطاج المسرحيّة" تتغيّر الوجوه، تتعاقب التجارب، تتداخل الندوات الفكريّة فيبدو بعضها صدى للبعض الآخر... لكنّ الهاجس المحوري يبقى هو نفسه: هل بلغت المجتمعات العربية درجة النضج الكافية كي تهضم فنّ الفرجة، وتدخله في صلب تقاليدها وممارساتها الثقافية؟
من القاهرة إلى قرطاج تتراكم المسرحيات ويتبدّل الضيوف، والسؤال واحد: أيّهما يفتقر إلى الآخر، المخرج أم المؤلف؟ أيّهما يعاني من وطأة الآخر، أو يشكو من غيابه: النصّ أم الجسد؟ وهذا السؤال الحاسم هو الذي يقسم، في كلّ مناسبة جامعة، أهل الخشبة العرب إلى معسكرين متواجهين، متناحرين. من جهة هناك من ينتحب على غياب النصّ وسقوطه من حساب التجارب الجديدة وخروجه من دائرة اهتمامها، ومن جهة ثانية ينتفض مخرجون وفنّانون بارزون ضدّ وصاية أهل الأدب والخطابة وممثلي المدرسة القديمة، ممّن لم يفهموا بعد أن المسرح فرجة لا بلاغة لفظية، ايقاع بصري وحركة لا انشاء وثرثرة ورخامة واطناب.
وهذا الصراع يعبّر، عن "أزمة مراهقة" تعطينا فكرة عن حالة المسرح العربي الذي هو أبعد ما يكون عن بلوغ سنّ الرشد، وتجاوز الأسئلة التأسيسية والبديهيات. فالجسد الذي عانى من طغيان النصّ الأدبي وتسلّطه الأبوي، لم يحسم بعد أمره، لم يكسب حريّته وشرعيّته كحجر الزاوية في المعادلة المشهديّة... وبدل أن يبحث مع الكلمة/ السلطة عن مناطق تفاهم وحوار، ها هو يعلن تمرّده ويمضي في رفضه الراديكالي لكلّ وصاية دخيلة على الاحتفال، لا تنبع من صميم الايقاع والشعور والحركة والحدث، لا تطلع من معاناة الممثّل وعرَقه وأحاسيسه.
التواصل المقطوع
بعدما رزح المسرح طويلاً تحت عبء النصّ، من الطبيعي أن ينتفض الجسد فيصل تمرّده إلى أقصى حالات الرفض والتطرّف. متى يدخل المسرح العربي سنّ الرشد؟ عندما تنشأ مصالحة بين الجسد والنصّ. لكن تلك المصالحة رهن بظهور جيل جديد من الكتّاب الدراميين ينطلقون من فهم حديث لفنّ الفرجة، ويفصّلون رؤياهم وخطابهم على قياس الخشبة الحيّة. وعندها فقط يعود النص ليحتلّ مكانته كأحد عناصر المعادلة المسرحيّة إلى جانب اداء الممثل، ورؤية المخرج، والتصوّر السينوغرافي، وديناميّة البنية المشهديّة... معادلة كلّ ايماءة فيها أو صوت أو اضاءة أو كلمة أو خطوة أو ايقاع، يشكّل مفردة قائمة بذاتها، مفعمة بالشعور، محمّلة بالمعنى ولا تحتاج إلى تفسير من خارجها.
وأقلّ ما يمكن قوله إن الدورة السابعة ل "أيّام قرطاج المسرحيّة" التي أقيمت قبل أسبوعين، لم تساهم في وضع اليد على هذه الاشكالية، بل أنّها لعبت دوراً في توسيع الهوّة واذكاء نار الفرقة، ومضاعفة سوء التفاهم. فالندوات النظريّة مثلاً، بدت على شيء من التعميم لم نعهده في قرطاج "المرأة والمسرح"؟!، ولم تسعَ إلى مدّ جسور الحوار بين التجارب المختلفة، بين المواقع المتواجهة.
"ورشة الكتابة المسرحيّة" مثلاً والتسمية لا تخلو من الادعاء، أقيمت بعيداً عن العاصمة وجمهور المسرح وأهله، وخارج أيّام المهرجان. كأنها ضرب من الفولكلور، ليس الغرض منه اثارة نقاش فعلي واضاءة البقع المظلمة وتطوير الحركة المسرحية. وبدل الانشغال في وضع اليد على الجرح، وطرح المسألة من كل جوانبها، وجد أهل الكتابة والباحثون وبعض المدافعين عن المسرح التقليدي القائم على النصّ أوّلاً وأخيراً، وجدوا أنفسهم في عزلة عن السجال الحقيقي على أرض الواقع، في سجن أكاديمي كرّروا فيه جملة من التنظيرات والتعميمات والتحديدات. لماذا لم تُشرك الورشة العتيدة في أعمالها فنّانين بنوا تجربتهم على اقصاء النص أو تحجيمه أو تحويره أو الاستعاضة عنه بعناصر الفرجة الأخرى أو ادماجه في نص بصري يكون المخرج مؤلّفه وسيّده المطلق؟ هل أقيمت الندوة ضدّ هؤلاء، أم أن الغرض منها هو خلق أجواء الحوار والاجتهاد والبحث وتبادل وجهات النظر وتشريح التجارب والأساليب والاتجاهات النظرية والجماليّة؟ لماذا لم نسمع شهادات وآراء رجاء بن عمّار ومحمد إدريس وتوفيق الجبالي والفاضل الجعايبي وغيرهم مّمن يقفون وراء نجاح ال "أيام..."؟
كأن المهرجان في واد والمسرح في واد! كأن ادارة ال "أيام..." هذه الدورة، تقصّدت الابحار في الاتجاه المعاكس لحركة المسرح الطليعي في المغرب العربي بشكل عام، بدل أن تصغي إلى هواجس وهموم مبدعيه، وتأخذ اقتراحاتهم وتجاربهم واضافاتهم وخصوصياتهم - وحتّى مآزقهم! - في عين الاعتبار. ما قيمة هذه التظاهرة إذا لم تحفظ مكان الصدارة فيها لحفنة من المخرجين الذين صنعوا بريق الخشبة منذ عقدين، والذين لا وجود للمسرح العربي اليوم خارج عطاءاتهم على اختلافها وتضاربها؟
فهؤلاء هم أصحاب مشروع حيّ، متجدّد، قائم على الابتكار، متّصل بالعصر ومتجذّر في الواقع، وذي اشعاع يتجاوز حدود العالم العربي. وتجدر الاشارة هنا إلى أن التظاهرة جذبت، للمرّة الأولى، ممثلين عن خمس تظاهرات دولية موتريل، ستوكهولم، بروكسيل، لندن، ودريسد، جاؤوا يلمسون عن كثب المرحلة المتطوّرة التي وصلت إليها بعض تلك التجارب، بغية برمجتها في الدورات المقبلة لمهرجاناتهم.
لكن فضل "أيّام قرطاج المسرحيّة"، بمعنى ما، أنّها تسلّط الضوء على الأزمة، على التواصل المقطوع بين عالمين ومدرستين وفهمين مختلفين للمسرح. كما أن الصالات المعتمة عرفت الاقبال نفسه، وأبواب المسارح شهدت الزحمة التي عهدناها، ما جعلنا نطمئن سريعاً إلى أن أحوال المسرح بألف خير. فالجمهور هنا لا يطلب سوى أعمال جيّدة - مهما كان موقع النصّ منها - تصدمه، تخاطبه، تحرّك مشاعره وانفعالاته.
آخر مسرحيات مجوبي
الجمهور ترقّب بشغف مسرحيّة الفاضل الجعايبي الأخيرة "عشّاق المقهى المهجور"، وتلقّاها كالصفعة. وتدافَع عند أبواب "التياترو" ليشاهد من جديد آخر أعمال توفيق الجبالي الهاذية "كلام الليل - صفر". وجاء إلى "فضاء الفنّ الرابع" يسافر في عالم محمّد ادريس الغرائبي مدير "المسرح الوطني"، الذي يغرف من مسرح الشرق الأقصى ويمدّ جذوره برهافة في الواقع المحلّي. واكتشف بشغف ولادة مخرج جديد هو عبد الحميد قيّاس الذي تجرّأ على تقديم "نهاية اللعبة" لبيكيت. كذلك اكتظ بالجمهور بهو سينما قرطاج سابقاً التي حوّلتها رجاء بنّ عمّار والمنصف الصايم إلى صالة مسرح مكرّسة للجسد باسم "مدار"، ووقفت على خشبتها لتقدّم بعد غياب طال عملها الجديد "بيّاع الهوى"، فتفوز بالجائزة الكبرى للمهرجان لجنة التحكيم الدوليّة ترأسها الناقد والباحث الرصين محمّد المديوني، وبين أعضائه المسرحي السوري الأصل شريف الخزندار....
وتمكّن الجمهور من مشاهدة عروض وتجارب عالمية، بينها "روميو وجولييت" من إيطاليا، "قابيل وهابيل" من الولايات المتحدة، "دويت" من المانيا كوريغرافيا ساسبورتيس أحد راقصي بينا باوش، "بيرينيس" راسين اخراج دانييل مزغيش من فرنسا... كما أن البرمجة سمحت للمهتمّين بالاطّلاع على وضع المسرح العربي من خلال آخر نتاجاته: "خادمتا" جان جينيه كما أخرجها زياد جلال الأردن، "حلم الهمذاني" التي ألّفها محمد العيثم وأخرجها سمعان العاني "الجمعية السعودية للثقافة والفنون"، "مائة عام من المحبّة" تأليف الفاضل خليل اخراج فلاح شاكر "نقابة الفنّانين"، العراق - جائزتا أفضل نصّ وأفضل ممثّلة، و"زرقون ستوري" التي تمثّل تجربة مثيرة من تجارب المسرح التونسي... و"ديوان البقر" كرم مطاوع وهو عرض يختصر كل العيوب التي على المسرح المصري أن يتجاوزها كي ينطلق في نهضة جديدة دعت ال "أيام" "فرقة الورشة" لتقدّم "غزير الليل"، ثم تراجعت لأسباب غامضة في اللحظة الأخيرة!.
بين العروض التي لفتت الأنظار، نبدأ بالاشارة إلى مسرحيّة آتية من سوريا هي "كاليغولا" ألبير كامو، كما قام باخراجها وأدّى دورها الأساسي جهاد سعد جائزة أفضل اخراج. فعلى رغم اللمسات الأكاديمية الواضحة، نجح سعد في اعطاء هذا النصّ الفلسفي بعده الراهن. ونجح في تحميل شخصية الديكتاتور الدموي - وهو في النهاية مثالي مجروح - ملامح السخرية اليائسة والهذيان الانتحاري. ولكلّ مشاهد أن يخرج باستنتاجاته واسقاطاته وقراءته على ضوء الراهن السوري والعربي.
ومن الجزائر جاءت فرقة "مسرح بجّاية الجهوي" بعرض "الحوينتة" الحانوت الصغير آخر ما أخرجه عزّالدين مجوبي، وكان يستعدّ لاعادة تقديمه في "المسرح الوطني" حين اغتيل عند باب تلك المؤسسة غداة تعيينه رئيساً لها. يعبّر العمل تنويه خاص من لجنة التحكيم عن هموم وجماليات المسرح الجزائري الذي لم يتحرّر من البعد السياسي والأخلاقي، ومن النبرة المباشرة و"الهادفة": متجر لبيع الخيوط والأزرار، سيتحوّل بسبب طمع صاحبته إلى متجر لبيع السلاح. ولعلّ تميّز العرض يعود بالدرجة الأولى إلى حضور واداء ريحانة الطاهر االتي تملك طاقات تمثيلية هائلة.
بعد مصر، أعاد توفيق الجبالي تقديم "كلام الليل"، وتتضمّن باقة اسكتشات جديدة أو منتقاة من مختلف الحلقات السابقة مع كمال التواتي، محمود الارناؤوط، إيمان السماوي...، هي بين الكاباريه السياسي ومسرح اللامعقول. يلقي الجبالي نظرة هاذية على المجتمع، يتلاعب بالكلمات والمفاهيم والكليشيهات والأفكار والصور والأضواء، يلجأ إلى التضخيم في التمثيل والحوار وعناصر الديكور مراحيض، يمزج التلميحات والنكات المباشرة بالشطحات العبثية التي تقول موقفاً عنيفاً من العالم، في مونتاج سينمائي كوريغرافي يعيد لمتعة المشاهدة معناها الأوّل في "مسرح بيروت" خلال كانون الثاني/ يناير المقبل.
ولادة مخرج
وفي معرض الحديث عن مسرح العبث، لا بد من التوقّف عند مسرحيّة "وفى الطرح" التي اقتبسها حمدي الحمايدي بالعامية عن نصّ صموئيل بيكيت الشهير "نهاية اللعبة" انتاج المسرح الوطني، وقام باخراجها عبد الحميد قيّاس. عرفنا قيّاس ممثلاً مع محمّد إدريس، وإذا بنا أمام مخرج متمكّن من أدواته، قادر على نقل مناخات بيكيت العبثية الهاذية... ولعلّ هذه المفاجأة من أهم اكتشافات المهرجان. يبرع جمال ساسي في اداء شخصية هام الأعمى المُقعد الذي يحتاج إلى مساعدة كلوف جلال الغربي العاجز عن الجلوس، وفي جواره حطام أمّه في برميل النفايات هدى بوعزيزي، لافتة هي الأخرى. اعتمد الاخراج على الجانب البصري حتّى الاسراف ماكياج الأجساد، الملابس، الأدوات...، مجتهداً في نقل مناخات بيكيت العدمية ووضعها في متناول المشاهد العربي: بؤس الوجود الانساني، الضعف والعجز واللامعنى، عيوب الطبيعة البشريّة واللاجدوى.
لكن بعض المَشاهد تفلت منه، حين يكثر من الصخب والحركة كمن يخفي نقصاً ما أو يسدّ فراعاً في الرؤيا. هكذا تعبر لحظات "بياض" أو سكون، ينقطع أثناءها التيار الكهربائي الذي يشدّنا إلى عمق النص وروحه، ويضيع الخيط الرفيع فلا يبقى سوى عناصر ومؤثرات خارجيّة. فنصّ بيكيت، خلافاً لما يبدو للوهلة الأولى، ليس من السهل في شيء تجسيده على خشبة المسرح، على الرغم من امكانات قياس الفنية التي لا شك فيها.
الزمان: غزّة أريحا أوّلاً
مع "رمزي أبو المجد" ننتقل من العبثية إلى مسرح واقعي يلامس حدود التعليمية التي يمليها الواقع الفلسطيني. وهذه الواقعيّة يعتمدها "مسرح القصبة" المقدسي، على ما يبدو، أساساً لمشاغله الفكرية والجمالية. سبق أن اكتشفنا هذه الفرقة الأكثر نشاطاً ونضجاً في فلسطين بعد انحسار تجربة الحكواتي لدى تعاونها مع "مسرح خان الاسرائيلي" في تقديم عرض "روميو وجولييت" الذي أثار الكثير من النقاشات في العالم العربي. كما شاهدنا لها مسرحيّة "المهاجر" التي اقتبسها جورج ابراهيم عن نص للبولوني سلافمير مرودزيك اخراج أنطوان صالح، وتدور حول أوهام العمّال الفلسطينين المهاجرين إلى الغرب. عرض "رمزي أبو المجد" ينطلق من المبدأ نفسه، والاقتباس يحمل أيضاً توقيع جورج ابراهيم عن نص للكاتب الجنوبي الافريقي أوتول فوغارد، فيما قام بالاخراج الممثل الفلسطيني المعروف محمّد بكري.
تتناول المسرحيّة جرح الهويّة الذي يعيشه مواطن فلسطيني في "زمان: غزّة وأريحا أوّلاً"، ممزّقاً بين اقامته الغزّاويّة، وبحثه عن عمل في مسقط رأسه يافا. رمزي أبو المجد أحمد أبو سلعوم - جائزة أفضل ممثّل جحا فلسطيني، ساذج وبسيط، شهم وصاحب مبادئ، همّه ايجاد عمل لاعالة زوجته وأولاده، وهذا مستحيل في يافا بهويّته الغزّاوية. لكن بينه وبين مواطنه صبحي حسام أبو عيشة الذي بقي في يافا بعد النكبة، مسافات هائلة في العقلية والسلوك. هكذا سيجد بطلنا نفسه تدريجاً في فخ الواقع الشائك، عندما سينتحل هويّة فلسطيني آخر مواطن اسرائيلي وجد جثته مرميّة على باب الحانة. هل مات أبو المجد بفقدان نخوته وفروسيّته واعتداده بانتمائه؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه المسرحيّة المقدّمة في قالب واقعي بريختي، يعتمد التغريب "السونغز"، أغنيات صبحي الزبيدي، ويتركنا نتخبّط في مرارة السؤال.
"رجل ومرا" هو عنوان عرض محمّد إدريس الجديد المستقى من نصوص زيامي، أي من تقاليد ال "نو" اليابانية العريقة. وصاحب "اسماعيل باشا" منشغل منذ سنوات بالغرف من جماليات وتقنيات مسرح الشرق الأقصى الذي وجد فيه امتداداً لشاعريّته المرهفة، ولميله إلى صياغة الاحتفال المزركش الحافل بالحركة واللون والاداء المؤسلب. "رجل ومرا" ترفيه مسرحي بسيط لا يدّعي أكثر من اكتماله التقني جائزة أفضل تقنيّة، وحرفيّة مخرجه في نحت المشاهد ورسمها، وضبط الايقاع والاداء تمثيل صلاح الدين مصدّق، بشير الغرياني، جمال مداني والنبرة الكوميدية.
ترفيه مُمسرح
فالمسرحي المعروف يقدّم هذه المرّة كوميديا شعبية على طريقة ال "كيوغان"، تعمد الحوارات المسجّعة والمقالب والمواقف المضحكة والتضخيم في التمثيل والبهرجة، ويؤدّي ممثل دور امرأة على طريقة ال "أوناغاتا" اليابانية أيضاً. مغامرات ودسائس رجل وامرأة تتحوّل علاقتهما صراعاً ومكائد وسباقاً للسيطرة على الآخر. لكن الوسيط الذي تعهد اليه مهمّة مصالحتهما هو الذي سيظفر بالمرأة ويترك الزوج في وحدته الهاذية. نجد هنا بصمات إدريس الشاعرية، ملامح من رؤياه المزخرفة الملوّنة وأسلوبه، تتحوّل الخشبة معه إلى صندوق فرجة يتحرّك الاخراج ضمن بعدين ويهمل البعد الثالث وندخل في مناخات غرائبية تساهم في تحديدها الملابس والألوان وعناصر الفرجة الأخرى. يرفع إدريس راية "المسرحة"، مستعيداً التوازن والتماسك اللذين افتقدهما في "دون جوان"، فنستعيد نحن، ولو من بعيد، مذاق أعماله السابقة من "اسماعيل باشا" إلى "ونّاس القلوب".
من لبنان جاءت سهام ناصر لتعيد تقديم "ميديه" عن جان آنوي في حلّة جديدة، تشارك هي فيها كممثلة للمرّة الأولى منذ فترة طويلة. تقوم ناصر بقراءة التراجيديا انطلاقاً من معطيات معاصرة، وتعتمد على مفردات حركيّة تولي الجسد كوريغرافيا عايدة صبرا ورويدا الغالي أهميّة خاصة. تتعدّد شخصيات وصور ميديه، وتقوم الجوقة بتأطير المأساة التي ستؤدي بالمرأة الجريح إلى الانتقام الشرس من جازون الذي لم يعد يحبّها. توظّف المخرجة تقنيات مشهديّة كخيال الظلّ، وتعتمد على ديكور عملي تعبيري... لكن العمل لم ينل الاهتمام المتوقّع في تونس لأسباب تقنية وفنيّة عدّة يضيق المجال عن ذكرها. فالتجربة قديمة في مسيرة سهام ناصر، لم تصل بها إلى مستوى "الجيب السرّي" الذي حيّته أكبر الصحف الفرنسية خلال "مهرجان الفرنكوفونيات" في ليموج قبل أسابيع.
ضد الكلام الزائد
تنطلق ناصر من الجسد في صياغة رؤيتها الاخراجية، وتلتقي بذلك مع تجربة "مسرح فو" الذي قدّم عملاً مميّزاً في الدورة الأخيرة ل "أيّام قرطاج". بعد غياب طال، جاهدت خلاله في تأسيس مسرحها الجديد انطلاقاً من العدم، ها هي رجاء بن عمّار تقف من جديد تحت الأضواء، مواصِلةً المعركة التي ترفع لواءها مع المنصف الصايم، ضدّ المسرح السائد، ضد الكلام الزائد والثرثرة. في مكان ما بين المسرح التعبيري والرقص كوريغرافيا آن - ماري سلامة، تؤسس بن عمّار لاستعراض تشرك فيه مجموعة من الشبّان والشابات هشام هديلي، ليليا... الذين يفتقرون قليلاً إلى الخبرة والمراس، خصوصاً على مستوى الرقص. لكنّ الكمال التقني آخر هموم هذه الممثلة التي تغرف مادة وحيها من جراح سريّة دفينة، وتعتمد على الطاقة الحيّة لممثليها، فتنثر رؤاها وتهويماتها على الخشبة، وتقف هي بأعصاب مشدودة وجسد ممزّق. تومئ بأحزانها، تنسج أمامنا خيوط الحكاية ثمّ تقطعها.
هواجس "بياع الهوى" امتداد لعرض سابق اشتهر به "مسرح فو" بعنوان "ساكن في حيّ السيدة". وهو يستدرج الناقد إلى مصبّات أوتوبيوغرافية أكيدة تضيع معها الحدود بين الشخصيّة ومؤلّفها ومؤديها. المرأة التي تشتهي، تحلم، تكره الرجال لفرط الحبّ، تهجس بالسفر... بالرحيل... بالأماكن الأخرى... يصاحبها في تسكّعها الداخلي، في نوبات الهستيريا، نثار أغنيات وصور وأفلام وروايات ولوحات. لكن المسرح الراقص هنا حسم أمره وبات أكثر نضجاً وتبلوراً. فيما الجسد يواصل السير على جلجلة عذابه.
"بياع الهوى" عرض تدور أحداثه في قاعة سينما، حيث تتسكّع أشباح القصص والمغامرات وقصص الحب والمآسي المثيرة. ونحن نشاهد العرض في سينما "قرطاج" التي احتضنت جدرانها قصصاً مشابهة. هكذا تتداخل الأزمنة والأمكنة في مناخ أقرب إلى "الباروك"... لا ندري هل عاشت بطلة المسرحيّة، وهي مضيفة استقبال في قاعة السينما المتخيّلة، هل عاشت حقّاً قصّتها مع ذلك الجندي الطالع من أوبرا بيزيه، أم شاهدتها على الشاشة؟ هل تسعى حقّاً إلى طفلها الضائع المستحيل، أم أنها تعيش هذا الحرمان في الواقع؟ وتلك المرأة التي تشبه مارلين ديتريش وتريد هي أن تشبهها: هل هي موجودة حقّاً، أم أنّها من الرؤى الكثيرة التي تعتمل في رأس بطلتنا، وينضح بها جسدها، فتفيض على خشبة المسرح؟...
مجموعة الممثلين/ الراقصين، توقّع محطات الاستعراض، تؤطر الحدث، تشكّل الحكايات والمشاهد السينمائية التي يزيدها الشريط الصوتي وضوحاً، وكان "مسرح فو" عوّدنا على الايحاء. كما أن بعض المشاهد تعاني من الفوضى، أو الاسراف في استعادة الحالات. لكن الأجساد هنا: ترقص، تتشكّل، شخصيات لا تحصى، في حكايات لا تنتهي... وهذا الديكور الحيّ تفلت منه ممثلة واحدة هي رجاء بن عمّار. وحدها تمسك بخيوط المأساة وتملك مفاتيحها الخفيّة. إنّه الحنين إلى عوالم خفيّة، أقاليم مجهولة، تضيق بها اللغة، وتعجز عن قولها الكلمات.
خيّم على "أيّام قرطاج المسرحيّة" شبح ضاحك، ساخر، لمخرج ليس كالآخرين، هو رشاد المنّاعي الذي انسحب بكبرياء، أياماً قليلة قبل الافتتاح، وكان يفكّر في تقديم "بستان الكرز" لأنطون تشيكوف. كرّمه المهرجان بطريقة عابرة، لكن الفاضل الجعايبي وجّه له تحيّة مدويّة، رقيقة، جارحة، من خلال شخصية بودا في مسرحيّته - الحدث: "عشاق المقهى المهجور" التي لنا عودة إليها في عجالة مستقلّة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.