رواية «في انتظار البرابرة» التي تحمل عنوان أشهر قصائد الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، للكاتب الجنوب إفريقي كوتزي، الحاصل على جائزة البوكر مرتين، قبل أن يتوج أدبه بجائزة نوبل 2003م، عالم بلا حدود من المشكلات الإنسانية والسياسية التي سيطرت على القرن العشرين، وما زالت تحتل القرن الجديد: الاستعمار والعنصرية واختفاء المعنى الحقيقي للديموقراطية والعدل، في سطورها ستقرأ الفراق والألم والوحشية، والظلم والحروب التي تنشأ فجأة، العذاب والحيرة، والتاريخ الذي يُمحى ولا يكتب لشعوب وحضارات كاملة. رواية بلا مكان وبلا زمان، قد تكون هذه الطريقة مُنفرة لبعض القراء لأن اختفاء تفاصيل كهذه قد تبعد القصة وما تحمله من قضايا عن صورة الواقع. تدور أحداث الرواية في بلدة مجهولة نائية على تخوم حدود الإمبراطورية الشاسعة، في حقبة زمنية بعيدة عن التطور والحضارة، ما نعرفه هو أن الإمبراطورية تجتزئ شيئًا فشيئًا من أماكن وجود قبائل البرابرة البدائية، حتى أصبحت تلك القبائل تعيش على تخوم أراض وواحات كانت لها يومًا ما، يعيش فيها الراوي منذ ثلاثين عاماً، ويعمل قاضياً مدنياً، ويدير الأراضي المشاع، ويتابع بانتظام إمدادات الحامية، ويشرف على الموظفين، ويراقب التجار، ويترأس المحكمة الصغرى مرتين في الأسبوع، وخلال هذا الزمن الطويل تعاطفت شخصية القاضي مع المجتمع المحلي وانسجمت تدريجياً مع تقاليد الناس وتفهمت طبيعة حيواتهم ومعتقداتهم، كل ذلك أفضى إلى أن تكون ببعديها النفسي والثقافي شخصية إنسانية مقبولة ومرحباً بها أكثر من غيرها. لكنها أيضاً في معيار المصائر الروائية ضحية من ضحايا الإمبراطورية، وخلال تلك الفترة عاش هذا القاضي مع أهل البلدة في هدوء حتى مجيء العقيد غول من المكتب الثالث (أهم فصائل الحرس الوطني في العاصمة) لقيادة حملة عسكرية، بحثاً عن الأعداء الوهميين للقضاء عليهم بغية تكريس هيبة الإمبراطورية، وتنتهي الحملة العسكرية ويعود الجنرال إلى العاصمة، حيث يقوم هو وأتباعه بعمليات تحقيق واسعة مصحوبة بتعذيب وحشي واغتصاب للنساء، ويموت الأطفال بسبب الإهمال، ويبقى عدد كبير من البرابرة الذين أطلق سراحهم في المدينة، إما مشردين أو متسولين، والمحظوظون منهم يعملون في الخدمة والدعارة، والسكان الأصليون في نظر الجنرال يتحولون إلى أعداء بالفعل، وهنا فقط يكتشف القاضي، بطل الرواية اللعبة! فما كان يجري لم يكن عملية متابعة لعنف وإرهاب، ولكنه صناعة واعية للأعداء والكراهية، وما كان يبدو من عمليات قتل للموظفين وسرقة واعتداء على الأملاك لم يكن على أيدي البرابرة الذين لم يرهم أحد، ولكن على يد جماعات الجنرال غول، ويعبر الكاتب عن ذلك بقوله: «وشيئاً فشيئاً أفرغت الأعمال العدوانية المدينة من قواها الحية. مدينة نهبها الجنود، وأصبحت قاحلة، تنتظر بهلع هجوم البرابرة الأخير «الأشرار الذين يبررون شرورهم بقدوم الأشرار». يقول القاضي في حديثه مع نفسه، الذي لا ينقطع طوال الرواية: «أتمنى لو أن هؤلاء البرابرة! يثورون ويعلموننا درساً من أجل أن نتعلم احترامهم، رغم أننا هنا منذ مئة عام أو أكثر إلا أن هذه بلادهم ونحن بالنسبة لهم زوار عابرون، يوما ما سيكون علينا الرحيل». وهذه الرواية تذكرني برواية صحراء التتار للكاتب الإيطالي دينو بوزاتي، التي لن تجد فيها صحراء ولا تتار، بل فضاء نفسي تتعايش فيه مشاعر بلا حصر. وزمن تجسد في ذرات مكانية على صور أشباح. خالد المخضب