تشتعل المنافسة بين الصينوالولاياتالمتحدة على الساحة العالمية على نحو مطرد، وسط جهود بكين لإثبات نفسها كقوة عالمية كبرى، وضغوط واشنطن عليها لعرقلتها عن تحقيق ما تصبو إليه، مما حدا بالجانبين إلى خوض حرب تجارية صريحة وتتصاعد المخاوف من تطورها لاحقاً إلى حرب باردة. ويقول المحلل الأميركي بول هير، الزميل البارز في مركز "ناشيونال إنتريست"، والزميل غير المقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية في تقرير نشرته مجلة ناشيونال إنتريست الأميركية، إنه من الواضح أن حرباً باردة بين الولاياتالمتحدةوالصين ليست مرغوبة، كما أنها ليست حتمية بالضرورة. ولكن من الصعب جداً أن نرى كيف ستتخذ بكينوواشنطن، سواء بشكل فردي أو مشترك، الخطوات اللازمة لتجنب ذلك. وأعلن العديد من الخبراء والمعلقين أن الولاياتالمتحدةوالصين تتجهان نحو حرب باردة جديدة أو تنخرطان فيها بالفعل. وينطبق هذا المصطلح في تحليلهم على المنافسة الاستراتيجية ثنائية القطب بين القوتين النوويتين وأيديولوجيتيهما. وسوف يكون ذلك في حالة حدوثه تكراراً للحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي كسباق للتفوق العالمي من شأنه أن يلزم الدول الأخرى باختيار بين الديموقراطية والاستبداد. ولكن الحرب ستظل "باردة" لأن أياً من الجانبين لا يسعى إلى المواجهة العسكرية المباشرة أو الغزو. والواقع أن الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدةوالصين سوف تشن في المقام الأول في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية، وفقاً لما يقوله هير. ومع ذلك، أعلن مراقبون آخرون بثقة مماثلة أنه لن تكون هناك حرب باردة بين الولاياتالمتحدةوالصين، لأن واشنطنوبكين لا تخوضان في الواقع صراعاً أيديولوجياً من أجل التفوق العالمي. إن الصين لا تسعى إلى الهيمنة العالمية أو تدمير الرأسمالية وأسلوب الحياة الأميركي، كما أن بقية العالم لن يقسم نفسه إلى معسكرات أميركية وصينية. وقال السفير الأميركي السابق لدى روسيا مايكل ماكفول: إن مقارنة المنافسة بين الولاياتالمتحدةوالصين بالحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي تخاطر "بسوء تشخيص طبيعة التهديد" و"سوء فهم طبيعة المنافسة". وكما قال المؤرخ ميلفين ليفلر، فإن الحرب الباردة حدثت "بسبب الظروف المحددة التي واجهت الولاياتالمتحدة بعد عام 1945. إن السياق التاريخي الذي تعمل فيه الولاياتالمتحدة اليوم، وتشكيلة القوة السائدة على الساحة الدولية، والجاذبية الإيديولوجية للنظام المنافس كلها مختلفة تماماً". ورغم أن بكين لا تسعى إلى الهيمنة العالمية، أو القضاء على الديموقراطية، أو تدمير الرأسمالية، فإنها تسعى إلى الحصول على الشرعية العالمية لنموذجها الحاكم المتمثل في "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية". وتسعى الصين أيضاً إلى تعظيم ثروتها وقوتها ونفوذها، خاصة بالمقارنة مع الولاياتالمتحدة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الولاياتالمتحدة كانت لفترة طويلة المعيار العالمي للثروة والسلطة والنفوذ. وتخلص بكين إلى أن واشنطن تبنت سياسة احتواء فعلية لمقاومة زيادة النفوذ الصيني. وهذا يدفع القادة الصينيين إلى إضعاف قدرة الولاياتالمتحدة على عرقلة الطموحات الصينية. كما يسعى القادة الصينيون أيضاً إلى استغلال خطوط الصدع بين الولاياتالمتحدة والدول الأخرى التي قد تتعاون بطريقة أخرى مع جهود واشنطن للقيام بذلك. وبحسب هير، يشكل هذا منافسة أيديولوجية منهجية ومنافسة هيكلية بين قوتين عالميتين على النفوذ الدولي، حتى لو لم يكن من الضروري أن تكون مجالات نفوذهما متعارضة. وفي حين أن هذه المنافسة لا تحتاج أيضاً إلى أن تكون صفرية، فإن كلا الجانبين يقتربان منها على نحو متزايد ويلقيان باللوم على بعضهما البعض لجعلها كذلك. فهما يصعدان منافساتهما الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية لاعتقادهما الواضح بأن امتلاك ريادة العالم في كلا المجالين أمر حيوي لأمنهما القومي، وأن الاعتماد المتبادل غير مقبول. ويرى هير أن بكينوواشنطن غير قادرتين على ما يبدو على فهم وجهة نظر كل منهما الأخرى أو الاعتراف بالعنصر التفاعلي لسلوك كل منهما بشكل كامل، أو غير مستعدتين لتقدير وجهة نظر كل منهما. وهذا الافتقار إلى الفهم المتبادل والثقة يغذيان المعضلة الأمنية الكامنة وسوء توزيع الطرفين للدوافع والنوايا الاستراتيجية للطرف الآخر. ويضيف أن الوضع السياسي الداخلي في كل من الولاياتالمتحدةوالصين يدفعهما نحو نهج تصادمي صفري تجاه بعضهما البعض. ويقول إنه على الجانب الأميركي، فإن الاعتقاد بأن الصين تشكل تهديداً على الطريقة السوفيتية للولايات المتحدة هو جزئيا نتيجة ثانوية للخلل السياسي والاستقطاب والضائقة الاقتصادية، التي تتطور منذ أكثر من عقد، لكنها تفاقمت بسبب تأثير رئاسة دونالد ترمب وجائحة فيروس كورونا. وربما كان متوقعاً أن يكون هذا قد غذى شعوراً بالضعف الوطني الذي ولد بدوره تصورات مبالغ فيها عن التهديدات الخارجية وخاصة من جانب الصين. وبالإضافة إلى إلقاء اللوم على الممارسات التجارية الصينية في النكسات أو نقاط الضعف في الاقتصاد الأميركي، ينظر إلى عمليات النفوذ الخارجي للصين على أنها تهديد للديموقراطية الأميركية، كما ينظر إلى قدراتها الفضائية والسيبرانية على أنها تهديد للأمن الداخلي الأميركي. وتمثل كل هذه التكتيكات والأدوات الصينية تحديات حقيقية وكبيرة للولايات المتحدة، ولكن الخطر الذي تشكله على أسلوب الحياة الأميركي كان مبالغاً فيه إلى حد كبير. وعلى الجانب الصيني، يستند الاعتقاد بأن الولاياتالمتحدة تشكل تهديداً وجوديا للصين جزئياً إلى بيانات السياسة الأميركية على مر السنين التي دعت ضمناً أو صراحة إلى تغيير النظام في بكين. وقد أثبتت هذه التصريحات مخاوف قادة الحزب الشيوعي الصيني من الاضطرابات الداخلية، وإمكانية مساعدتها وتحريضها من قبل "التخريب الأجنبي". ولكن الآراء السلبية للولايات المتحدة بين الشعب الصيني يغذيها أيضاً تاريخ من الانتهاكات الأجنبية للسيادة الصينية التي لعبت فيها الولاياتالمتحدة دوراً حتى قبل حكم الحزب الشيوعي الصيني. وهذه التصورات تغذيها باستمرار دعاية الحزب الشيوعي الصيني، ولكن هناك حقيقة تاريخية وافرة فيها. والتساؤل الذي يطرحه هير هو، إلى أين سيقودنا هذا الوضع؟ ويقول: إن النتيجة هي منافسة صفرية ظاهرياً على الثروة والسلطة والنفوذ بين أكبر قوتين في العالم، واللتان لديهما بشكل أساسي نظامين سياسيين واقتصاديين متعارضين، وكلاهما يسعى إلى الحصول على الدعم الدولي لهذين النظامين. وعلاوة على ذلك، فإن الديناميكية السياسية الداخلية من كلا الجانبين تضمن عدم سعي بكين أو واشنطن بنشاط إلى اتباع نهج أكثر معقولية أو تيسيراً تجاه الآخر مما هو سائد الآن. ويرى هير في ختام تقريره أن التوصل إلى حل وسط أمر محفوف بالمخاطر ولا يمكن الدفاع عنه سياسياً، كما يرى أن التفاهم المتبادل والثقة المتبادلة عقيمين أو هزليين. وبدلاً من ذلك، سيركز كلا الجانبين في المقام الأول على السعي إلى الحصول على مزايا استراتيجية وهيكلية وتنافسية على حساب الطرف الآخر. لكنهما على الأقل سيبذلان الجهود لتجنب نشوب صراع عسكري صريح، لأن كلا الجانبين يدركان التكاليف الكارثية المحتملة لذلك، ولا يثق أي منهما تماما بقدرته على الانتصار.