الحضور المتنامي للصين في الشرق الأوسط؛ وجنوب شرق آسيا وإيران؛ مع تحول السياسات الأمريكية وتغيير بوصلتها عن شركائها في المنطقة؛ أعطى المارد الصيني الفرصة على طبق من ذهب؛ لتكون «لاعباً جيو استرايجياً مركزياً» في قضايا المنطقة والإقليم الآسيوي وإعادة التموضع الصيني عبر استخدامها سلاح السلام التنموي وتحديداً مبادرة الطريق والحزام التي تغلغلت في العمق الجنوب آسيوي، مما يمثل تحدياً للنفوذ الأمريكي الذي يشهد ابتعاداً عن المنطقة. وفي مرحلة ما بعد جائحة كورونا «دخل العالم حتما الحرب الباردة الثانية رسمياً، وهذه المرة بين الغرب والصين وأصبح على مشارف تراجيديا حرب باردة جديدة بعض الخبراء يقول إنها ثنائية قطبية بين الصين وأمريكا والبعض الآخر يقول إن الحرب الباردة، تتنازع بطولتها واشنطن وموسكو وبكين، فطيلة العقود الثلاثة المنقضية، توالت ملامح المنحى الصدامي الأمريكي إزاء كل من روسياوالصين». في حقبة المواجهة الأمريكية المتزايدة مع الصين تجد أوروبا نفسها في مأزق. في السر، ولا يريد القادة الأوروبيون أن يجدوا أنفسهم متورطين في حرب باردة وفي العلن ترغب الاقتراب إلى الصين القوى العالمية التي فرضت نفسها على الخارطة الكونية وأضحى التنافس الجيوسياسي على النفوذ فى أوروآسيا، ومناكفاتهما السياسية المتبادلة، تتسع تدريجياً فجوة الثقة بينهما على وقع تباين وتيرة تعاظم القوة الشاملة لكليهما. لقد تعدت الصين مرحلة إخفاء قوتها وهو أسلوب الحزب الشيوعي الصيني منذ نهاية السبعينات، ودخلت بوضوح مرحلة تحصيل المكاسب الاقتصادية وإظهار قوتها الاستراتيجية والتقنية والعسكرية والناعمة.. وأصبح لدى الغرب قناعة تامة بصعوبة تفكيك الصين، كما حصل مع الاتحاد السوفييتي في الماضي، لكن هذا لا يعني عدم نجاحه في عرقلة ومحاصرة النفوذ الصيني عبر فرض استقطاب عالمي حاد تحت يافطة: مع الغرب أو ضد الغرب. وكان وزير الخارجة الصيني، وانغ يي، قد اختتم مؤخراً جولة في الشرق الأوسط، أعطى خلالها إشارات واضحة على أن بلاده تعتزم التحول للعب دور محوري في شؤون المنطقة. لقد تحولت سياسة الصين من «تفادي الاصطدام المباشر مع السياسات الأمريكية» إلى إدارة علاقاتها في المنطقة إلى «إدارة العلاقات على مستويات ثنائية مع الدول المنفردة وبصرف النظر عن صراعاتها البينية، أو طبيعة ارتباطاتها بالسياسات الأمريكية» والشراكة بين الصين وإيران دليل على ذلك.. ومن الواضح أن الاقتراب الصيني من القضية الفلسطينية ومفاصل القضايا في المنطقة وما تشنه بكين ما يشبه بالهجوم الدبلوماسي المعاكس الذي لا يكتفي باختراق صفوف الدول الحليفة للغرب، بل يسعى أيضاً إلى استمالة الدول المتنازعة مع واشنطن، بالإضافة إلى تشكيل جنوع من القطبية الثنائية مع روسيا في وجه الولاياتالمتحدة. ومن الواضح أن إدخال الصين لإيران وروسيا فإن هذا الثلاثي سيلعب دوراً مهماً في سوريا والعراق.. وتعكس الاتفاقية الاستراتيجية بين الصين وإيران الطموح الصيني للعب دور أكبر في منطقة الشرق الأوسط، وتأتي كدعم لمخططاتها للتوسع عالميا بمشاركة حلفاء يعتمد عليهم يساعدونها في تنفيذ خططها الاستراتيجية للوصول إلى أكبر عدد من الموانئ لتعزيز نفوذها التجاري والعسكري. يقول المحللون إن الصين تأمل في أن تتألق مرة أخرى في المنطقة وذلك بعد سلسلة من التحركات الأمريكية التي تهدف إلى السيطرة على توسع الصين في مياه بحر الصينالجنوبي التي تتنازع دول في جنوب شرق آسيا عليها. إن انعكاسات قوة الصين بدأت تتخطى شرق آسيا (وذلك جوارها الجغرافي)، إلى شمال وجنوب القارة والى المحيط الهادئ، وتلك أماكن نفوذ أمريكي في العقود السبعة الماضية. كما أن انعكاسات القوة الصينية بدأت تظهر خارج آسيا: بداية في أفريقيا والآن في بعض دول أوروبا (في البلقان بشكل واضح، وفي إيطاليا واليونان بشكل أقل وضوحاً). الصينيون يرغبون حقاً في إرسال أقوى الإشارات على أن دول جنوب شرق آسيا يجب أن تحترم بكين قبل أن تحترم واشنطن. وأصبحت مطالبات الصين بالسيادة في بحر الصين الشرقي والجنوبي قضية ذات أولوية في العلاقة الصينيةالأمريكية المتوترة بشكل متزايد. وتدرك الولاياتالمتحدة أن تطور القدرات الصينية سريع وأن تجربة النمو الصيني وخروجها من حيز شرق آسيا إلى ما هو أبعد تُحَتِم على الولاياتالمتحدة العمل السريع لمنع الصين من تحصيل وسائل قوة جديدة. لقد انتهجت الصين سياسات قائمة على تعزيز المكانة العالمية والإقليمية للصين، والحصول على أسلحة متطورة تقنيا والتعامل مع المواقف العسكرية المستقبلية للولايات المتحدةالأمريكية واليابان والهند إلى جانب الاحتفاظ بالقدرة على التهديد الجدي باستخدام القوة ضد تايوان التي تتزايد نزعتها الانفصالية وقوتها الاقتصادية وتعزيز النفوذ العسكري والدبلوماسي الصيني في الأراضي الاستراتيجية المجاورة التي تطالب بها بكين، والقدرة على الوصول إليها، ومنها بحر الصينالجنوبي.. لقد تحولت العقيدة العسكرية الصينية إلى مبادئ قتالية جديدة تتفق مع ظروف دولة عظمى حديثة تفرض على الصين ضرورة اكتساب قدرة أكبر على استخدام قوتها خارج حدودها، وتعزيز طموحاتها في أن تصبح دولة عظمى -لا شك- أن فكرة المواجهة بين البلدين استراتيجية بالأساس: أي في التموضع في العالم وفي تحصيل وسائل القوة والنفوذ – وليس في احتمالية مواجهة عسكرية في المستقبل المنظور. الصين أصبحت القوة العظمى في العالم خلال السنوات القادمة في القرن الواحد والعشرين، موضحاً أن ظاهرة الصعود الاقتصادي للصين وآسيا يعني بداية لما أسماه ب«القرن الآسيوي»، ونهاية لعصر الولاياتالمتحدةالأمريكية التي كانت القوى الوحيدة في العالم. و بدأت أوروبا في إعادة النظر في سياستها الخارجية، حيث بدأت تتجه نحو الشرق وبشكل خاص آسيا والصين، وكذلك إسرائيل وضعت الصين كإحدى الدول التي ستركز عليها في التعاون الاقتصادي ضمن خطتها الاستراتيجية للأعوام القادمة.وتمثل الهند تحدياً آخر للصين وخاصة نشاطها البحري في المحيط الهندي، وقد أدخلت الهند تحسينات كبيرة ومهمة على قدراتها العسكرية البحرية والجوية، وتطرح هذه التطورات احتمالات ازدياد التنافس الهنديالصيني، والتوجه الهندي نحو اقتصاد السوق يضع الأساس للتنافس الاقتصادي مع الصين.وتبدو الصين وفق قاعدة القوة الاقتصادية والعسكرية مرشحة للعودة قوة عالمية كما كانت قبل قرون عدة، وربما تكون المنافس الأكبر والأهم بالنسبة للولايات المتحدة في السنوات القليلة القادمة، فالنمو الاقتصادي المتسارع الذي تحققه منذ ربع قرن سيجعلها القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وعدد سكانها وقوتها العسكرية يرشحانها لموقع قيادي في العالم. وستظل الولاياتالمتحدة تمارس تأثيراً حاسماً في البيئة الأمنية المستقبلية للصين، وتتطلب المصالح الجيوبوليتكية الأمريكية أن تكون الصين ضعيفة نسبياً ومنقسمة على نفسها، ويقول واضعو السياسة العامة في الصين إن واشنطن ستبذل قصارى جهدها لمنع ظهور بكين قوة اقتصادية وعسكرية كبرى، ولكن ينظر في الوقت نفسه إلى الولاياتالمتحدة كدولة لا غنى عنها لتطوير الصين وكسوق تجارية كبرى لها، وكمصدر مهم للتقنية والمعرفة.