قضيت إجازة اليوم الوطني الماضية في مدينتي الحبيبة الوادعة شقراء؛ أزور والديّ وسبيلي للوصول إليهما طرقات وطني الآمنة، أقطع الطريق روحةً وإياباً وعيني ترقب كل مكان أمرُّ عليه، وهو أمرٌ لا يهلك على كثرة الرد، بل أنا معه على الحال المرتحل كل مرة، تماشيني ببهجة بلدات أعرفها كما أعرف كف يدي وهي لا شك تترفق بنا، فما هي حضارات الماضي التي ترفد حضارة اليوم؟ من المهم ذكر وتقرير أن غالب نجد هي حواضر ومدن عامرة؛ لم يكن أهلها من الرحل، بل هم مستوطنون في مدن مأهولة طيلة العام، يرتحلون في موسم الكلأ الموقوت بفترة زمنية صغيرة، ثم يعودون لقراهم سراعاً، وسبب استيطان اليمامة يعلله الدكتور صالح الوشمي -رحمه الله عليه- بوقوع نجد على الطرقات الرئيسة في شبه الجزيرة العربية، ولهم موقع ثابت، ووضع في كتابه إحصائية لقرشيين تزوجوا من سيدات اليمامة، ومن أشهرهم أبو هالة هند بن النباش التميمي تزوج بأم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها-، ونساء كثيرات من نجد تزوجن من قرشيين، وفي هذا إلماحة منه عالية القيمة إلى أن قريشاً تسكن حاضرة الحجاز، وقبائل نجد تسكن عالية نجد، لكل منهما منطقة جغرافية ثابتة المحل فيتأهلها السكان، وقد وصف ابن حجر في الإصابة اليمامة بقوله: «اليمامة هي ريف مكة». أتجه شمالاً خروجاً من الرياض العامرة بلدة الشاعر الأعشى والذي بقيت أبياته مبصرة طوال الدهر، وأول البلدات للمرور عليها مدينة الجبيلة وهي مدينة تقع على وادي حنيفة، وفيها دارت حروب الردة في معركة اليمامة ومحلها روضة عقرباء في الجبيلة، وقتل فيها مسلمة بن حبيب الحنفي المعروف باسم مسيلمة الكذاب، ودفن في حديقة الموت، وأسوارها باقية إلى الآن، ولا يزال فيها قبور الصحابة استشهدوا في تلك المعركة، ومنهم قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه. أمرُّ بعدها بمدينة حريملاء المسماة بهذا لانتشار نبات الحرمل في أرجائها، في حين يرى علامة الجزيرة العربية حمد الجاسر -رحمه الله- أن حريملاء هو تصغير لكلمة «حرملاء» الواردة في الشعر الجاهلي، يقول أوس بن حجر: تجلل غدر حرملاء وأقلعت سحائبه لما رأى مَلْهَما وهي مجموعة تضم بلدات مجتمعة تسمى بهذا الاسم، أشهرها بلدة سدوس الضاربة في عمق التاريخ، ففيها قصر منحوت من الصخر بنته الجن، يسمى «عمود سدوس» نسب لسليمان عليه السلام كما ذكر الدكتور صالح الوشمي -رحمه الله- في كتابه القيم: «ولاية اليمامة»، وفي سدوس المعروفة قديماً باسم القُرَيّة، قال الحطيئة: إن اليمامة خير ساكنها أهل القُرَيّة من بني ذُهَلِ والرابط بين اسم «سدوس والقريّة» اسمها الجاهلي القديم؛ أنْ سكنها بني سدوس بن شيبان بن ذهل قبل الإسلام، ثم أصبحت تعرف بقرية بني سدوس، ثم في مطلع القرن الثامن الهجري اختصر الاسم ليصبح سدوس حتى اليوم، والسدوس في الأصل يطلق على كل لباس أخضر، ولعل فيه قرابة لغوية وظلال من الكلمة الفارسة المعربة «سندس» الحرير الأخضر، فهل كان هذا لباس حاكمها الأول؟ وفي حريملاء مسجد قراشة، مسجد الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، ولا يفوتني أن أنبه المارين بحريملاء ألا يجاوز أحدهم التسعين سيراً بالسيارة، فترتد مركبته بذا أشبه بمشي الدابة؛ هروباً من رادار السرعة الموقوت بشكل بطيء جداً. تردفها غير بعيد مدينة البرة، أو رغبة، قال طهمان بن عمرو الكلابي: لقد سرني ما جرَّف السيلُ هانئاً وما لقِيتْ من حدِّ سيفي أناملُه ومَتْرَكُهُ بالبَرَّتين مجُدّلا تنوحُ عليهِ أمهُ وحلائلُه والبرتان جبيلان صغيران، يقال لكل واحد منهما البرة، وكان عندهما كما ذكر ابن بليهد يوم من أيام العرب بين بني عامر وبني أسد، وعامة أهل نجد تعرفها باسم البرة بجانبها بلدة رغبة الصغيرة، ولأن هذه المنطقة تبر أهلها بالخصب والربيع، جاء اسمها البَرَّة. وبامتداد الأفق ومسامرة الجبال لي في جانبي الطريق، تطل قريبة القصب، وهي بلدة قديمة من العصر الجاهلي ذكرها ياقوت الحموي في معجمه، تتكون من عدة قصبات، قصبة الطرفاء وقصبة الملح وقصبة الرمادة وهذه الأخيرة من أشهرها، ذكرها الشاعر ذو الرمة: أصيداءُ هل قيظُ الرمادةِ راجع لياليه أو أيامهن الصوالح وقال الراعي النميري: فلنْ تشربي إلا بريقٍ ولن تَرى سَوامَا وحِسا بالقَصيبَةِ والبشر وهي كما عدها ابن بليهد من ملحقات وشم اليمامة، ولم تدخل في صلح خالد بن الوليد رضي الله عنه أيام مسيلمة. وأُقبِلُ بعدها إلى عاصمة إقليم الوشم «شقراء»، وهي دار خصب وخير، فقد نقل إنه في الوشم وحدها ثمانون قرية حاضرة، بآبار جوفية ومحاصيل زراعية مختلفة الطعوم. يقول عنها الشاعر الأموي زياد بن منقذ، في المئة الأولى الهجرية: متى أمرُّ على الشقراء معتسفا خل النقا بمروح لحمها زيم والوشم قد خرجت منه وقابلها من الثنايا التي أقلها ثرم ويذكر ياقوت أنها سميت بذا لأكمة فيها، ومازالت ماثلة في مدخل المدينة، يوفي جبل إخال ترابه كأن حبات الرمل فيه ذرات ذهب منثور، بل الشمس قد نزلت في الأرض وتَخِذَتّه محلا، فهو جبل تعلوه شقرة، محمل بالبهجة للناظر والباد والمار، وأهم أمرائها أحد أجدادي لأمي الأمير عبدالله بن حمد بن غيهب رحمه الله. بينها وبين جبال طويق والنفود نهر جاف يستحيل في وقت المطر بحيرة صافية اسمها الحمادة، ولا أعرف بلدة جمعت جبلاً وسهلاً ونهراً ورمالاً ومراتع خصب وزروع ومقام كريم مثل شقراء، وهي ضاربة في عمق الاقتصاد فقد كانت سلة حنطة الجزيرة وتمد الحجاز بهذا، وتوالى عليها الولاة لعظمة قدرها الاقتصادي، وفي أيام الدولة العثمانية وقبل إنشاء نظام البنوك كانت الدولة العثمانية لا تقبل صرف الذهب إلا في شقراء، لوجوده فيها وموثوقيتهم منهم، وفي حال الصرف توجد سوق البضائع المبتغاة، فهي بنك أول وسوق تجارية في آن، وتقع على مفرق طرق سبعة للتجارة والتنقل، وهي محضن العلم والعلماء من أول أيامها، ولولاء أهلها القديم هيأ جلالة الملك عبدالعزيز في موقعة السبلة عام 1347ه سبعين مسكناً لأهل بيته وأبنائه، وأقاموا فيها ستة أشهر، ونزلت الأميرة حصة السديري أم الملوك مع أبنائها وحاشيتها؛ وهذا دليل على اطمئنان الملك عبدالعزيز رحمه الله إلى منعة هذه المدينة وولاء أهلها ووفائهم. شقراء مدينة فيها أنْسٌ لا ينقطع، وريح ترابها طيبة النشر، تحيط بها تلال النفود الساحرة من جهة، وتحميها جبال حمر تلتهب مع شروق الشمس بالنور، قد تسنمت من العلم موطئاً عظيماً، وهي بحق شقراء الملهمة، وإذا كانت مدينة شقراء تحمل هذا الاسم المؤنث، فهي دلالة راسخة على علاقة الأنثى بالمكان وحضورها، وعدد النساء اللاتي افتتحن كتاتيب كثير جداً، أشهرهن مثالاً كتاب المطوعة إدريسة، سارة بنت إدريس الدريس، وهيلة المطوعة بنت عبدالله البواردي الملقب بالمذن، والمطوعة اسم المعلمة في نجد، والفقيهة في مكة، والخوجة في المدينة. * أكاديمية بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن