جاء الإعلان عن إطلاق برنامج تنمية القدرات البشرية في هذا الوقت ليجدد الآمال في صناعة نقلة نوعية وتحول حقيقي في مجال إعداد المواطن السعودي وتأهيله للمنافسة العالمية. وبالاطلاع على صفحة البرنامج ووثيقته الإعلامية وتحليل أبعادها، تظهر بعض أهم معالمه التي تميزه عن سابقه من خطط الإصلاح والتحسين في القطاعات المرتبطة بتنمية القدرات البشرية. أولى هذه المعالم هي رئاسة سمو ولي العهد للجنة البرنامج، فعلى الرغم مما يعلمه الجميع من اهتمامه ومتابعته لجميع برامج الرؤية ومشاريعها في مختلف القطاعات، إلا أن رئاسته المباشرة للجنة هذا البرنامج تجسد ما ذكره في أكثر من مناسبة حول مركزية المواطن السعودي في قضية التنمية وأنه رأس المال في صناعتها والأساس للاستفادة من نتائجها. ويأتي تنوع الوزارات والجهات الحكومية الممثلة في لجنة البرنامج والمشاركة في بناء وتصميم خطته ليشكل معلماً آخر مميزاً لهذا البرنامج. فكما أن تنمية القدرات البشرية هي أولوية أولى لدى القيادة، فكذلك هي ليست شأناً خاصاً لقطاع معين منحصر في وزارة التعليم أو الجامعات أو مؤسسات التدريب وهيئة التقويم، بل جميع الوزارات المعنية بدءاً من تلك المسؤولة عن التمويل كالمالية والاقتصاد والتخطيط، مروراً بتلك المعنية بصناعة اقتصادات جديدة في المملكة كوزارات الثقافة والسياحة والصناعة والاتصالات والتجارة، وصولاً للوزارة المعنية بإدارة مخرجات هذا البرنامج المتمثلة في الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية. هذه النظرة الشمولية لتنوع المسؤولية وأهمية المشاركة من جميع الجهات المعنية في صناعة مستقبل هذا الوطن الذي هو المواطن السعودي تصنع واقعاً جديداً في هذا القطاع، وإعادة لتوزيع الأدوار والمسؤوليات كما يعكسها هذا البرنامج والمشاركون في تخطيطه. وثالث المعالم المميزة لهذا البرنامج عما سبقه من خطط وبرامج إصلاحية هو تركيزه الكبير على قضية المهارات، وإعطائها أولوية واضحة سواء على مستوى ركائزه الثلاث أو أهدافه أو مؤشراته. فعبارات مثل «مهارات القرن الحادي والعشرين» و»المهارات المتقدمة لموائمة متطلبات الثورة الصناعية القادمة» و»تطوير المهارات بشكل مستمر» هي عناوين بارزة في جميع صفحات الوثيقة المعلنة وبرامجها المتنوعة. وهذا التركيز هو تماهٍ باحتراف مع التوجهات العالمية في إعطاء الأولوية للمهارات الأساسية (القراءة والرياضيات) والمتقدمة (التفكير الناقد مثلاً) والرقمية، والتي ركزت عليها تقارير المنظمات الدولية منذ بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بل كانت عناوين لتقارير خاصة أطلقتها منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي OECD والبنك الدولي. وهذا التماهي مع التوجهات الدولية يعضده كذلك الاحتكام للمؤشرات العالمية بهدف التحقق من الوصول للمستهدفات الطموحة لهذا البرنامج. فالمعيار المعتمد في البرنامج للتأكد من تحقيق المخرج النهائي للبرنامج «مواطن منافس عالمياً» هو -من ضمن أمور أخرى- أداء هذا المواطن في الاختبارات والمؤشرات الدولية مثل البيزا PISA والتمس TIMSS التي سماها البرنامج تحديداً وأوضح المستهدفات فيها تفصيلاً، إضافة إلى تقدم مؤسساتنا التعليمية في التصنيفات الدولية. وهذه المنهجية في بناء المستهدفات وتحديدها تعكس معلماً جديداً لعالمية هذا البرنامج وارتفاع سقف مستهدفاته، والتأكيد على الشفافية في التأكد من تحقيقها، فلسنا نحن في السعودية من سيعلن نجاح البرنامج وتحقيق أهدافه، ولكن نتائج مشاركاتنا المستقبلية في الاختبارات والدراسات الدولية هي التي ستؤكد ذلك. وعلى صعيد اللغة والخطاب، شهدت وثيقة البرنامج تركيزاً على عناوين ثقافية رئيسة لقدراتنا البشرية المستقبلية، ف»التسامح» و»الانتماء الوطني» و»الابتكار» و «المواطنة العالمية» هي أمثلة لخطاب سعودي عالمي، تقوده المملكة في المنطقة إطفاءً لحرائق الخطابات الأممية والطائفية والظلامية التي أشعلتها أنظمة سياسية وجماعات رجعية أخرى. هذه المعالم الخمس المميزة لهذا البرنامج الأخير من برامج رؤية المملكة 2030، تستدعي الاهتمام والتركيز في معالجة بعض التحديات التي تفرزها. فالبرامج والخطط الجديدة بهذه المعالم المختلفة لا يمكن تنفيذها بنفس المنهجيات والطرق التقليدية القديمة بما فيها من مركزية إدارية واحتكار للصلاحيات ووصاية على الإبداع. ومن ناحية أخرى، فالمشاركة المتنوعة من مختلف الجهات المعنية في التخطيط للبرنامج ومناقشته وتطويره حتى إطلاقه تستدعي بالضرورة استمرار هذا التعاون والمشاركة في مراحل التنفيذ، فهذه الخطة الطموحة والشاملة يعتمد نجاحها على نجاح جميع مبادراتها وتكاملها من البداية وحتى النهاية. وهذا يقودنا إلى أهمية تفعيل آليات ضمان الجودة الداخلية من خلال مكتب البرنامج في متابعة تنفيذ محافظ مبادراته المتنوعة، وتفعيل كذلك آليات ضمان الجودة الخارجية من خلال اللجان الاستراتيجية العليا والتي قد يكون من المفيد استثمار شراكاتها مع المؤسسات والمنظمات الدولية في المراجعة الدورية، هذا إضافة إلى المتابعة المستمرة والمستقلة من الجهات التمويلية والاقتصادية للتحقق من الوصول للأهداف المرحلية للبرنامج. فنظراً لطبيعة هذا البرنامج ومخرجاته التي من الطبيعي ألا تظهر نتائجها النهائية إلا مع نهاية أيام الخطة، إلا أن المستهدفات المرحلية تعتبر كنقاط الفحص على الطريق للتأكد من سلامة وصول القافلة إلى غايتها النهائية.