يقول العروي: درس مانهايم عالم الاجتماع اليهودي (1893 - 1947) الفكر المحافظ الألماني كنمط عام تندرج تحته كل الأيديولوجيات التي ترمي إلى المحافظة على نظام اجتماعي معين(). وعليه؛ فإن الأداليج التي تحتل العقل الجمعي تقوم بعملها على أكمل وجه من دون أن يكون هناك مرجعا آليا، أو نصا كتابيا يدير حركتها، مع غض النظر عن مدى بشاعتها أو رجعيتها؛ فكل مكون إنساني بدرجاته المختلفة، وتركيباته المعقدة يقوم على ميكانيزم معين، أو نظام تشغيل، فعند كل رغبة، أو انفعال نخضع لشرطية آنية تكونت من مدخلات عدة قبل أن يخرج هذا الانفعال في صورة مشاهدة حية للناظرين ربما يكون حِيْنًا حضاريا لافتا ومعجبا، أو همجيا متوحشا، أو بين بين بحسب عمق الضمير، والتجربة المكتملة لشروطها، وعند العروي يعتبر هيجل مفرقًا تاريخيًا، فما كان قبل هيجل ليس كما كان بعده، ولماذا هيجل، لأنه يلخص مقولات أفلاطون ومكيافيلي، ويفند أقوال أوغسطين، وروسو، وكانط، فعند هيجل: «تتوحد كل الجداول القديمة، ومنه تتفرع المذاهب العصريّة».() وهو «نقطة الوصل بين الفلسفة الكلاسيكيّة والفلسفة العصريّة». إنه ما لم يمكن الاستغناء عنه لفهم الماضي والحاضر وما بينهما من نُقلة(). ويحكم مفهومنا عنده مقولتان متجذرتان فيما حولنا، الأولى: أن الغاية المقدرة للبشر لا تتعدى الماورائيات، وأن الحياة الدنيا بمثابة تجربة نخوضها لننال شيئا في انتظارنا، فتكون سمة العبور والمرحلية المؤقتة معرفًا يجعل الهامشية هي أصل كل ما نحن فيه وأن «الماهناك» هو الحتمية التي لا يخرج شيء أبدًا عنها، حتى الدولة ليست إلا تنظيما عابرًا ومؤقتًا وجد لخدمة حاجات أفراده المرتبطة بمكان آخر، فليس هناك أي نظرية معرفية تؤسس لمفهوم الدولة بمعناها الإنساني الجامع لشرائط الفعالية الحضارية، ويمكن أن تجد هذه المقولة عند: الرواقيين وأنصار القانون الطبيعي من: أغسطين إلى فقهاء الإسلام. وأما المقالة الثانية فتقرر: أن غاية الإنسان هي في قيام وجود حقيقي اجتماعي معرفي بنائي للفعل الإنساني الواعي غير منفصم عن واقعه بهدف الرفاهية والسعادة: وأن الدولة ظاهرة من ظواهره الاجتماعية، والمطلوب منها حسب هذه القالة الحفاظ على الأمن في الداخل والسلم في الخارج ضمن إطار حاكم من قوانين العقل لا الفردانية الشخصية، ويمثل هذه المقالة السوفسطائيون، الطبيعيون، الرومانيون، وبعض فلاسفة الإسلام كإخوان الصفا، وفلاسفة القرن الثامن عشر، ولبيراليو القرن التاسع عشر، ويعتقد العروي أن المقالتين متعارضتان وفي حالة صراع دائم ()، وعند هيجل: أن الدولة هي من يقرر حرية الفرد والذات، وأنها هي من تخلقها ولا تقف أمامها، أو تعيقها لكنه يرى أن الحرية توجد في الدولة ومن أجلها فبدلا من التحرر من الدولة نتحرر بها ومعها فالحرية هي: أن تفعل الصواب داخل الدولة()، فهيجل هنا لا يعيق التحرر بل يقننه ضمن الدولة ليكون مثمرا واعيا بنفسه لا عبثيا، وفي هذا يقول «يمكن أن نعتبر أن الدولة العامة تزداد كمالا كلما كان ما يترك لمبادرة الفرد، لكي يعمل فيه حسب رأيه الخاص، أقل أهمية مما ينجز جماعيا () وهذا كلام يتفق مع المبدأ الفقهي الإسلامي فالإجماع هو العصمة من الزلل المعرفي وهو أحد الأدلة المعتبرة ولو أردنا تعريفه أليس هو مجاميع الآراء لا الصورة الجسدية للأشخاص التي تتفق على قضية ما، لكن الذي لا يعلمه بعضهم: أن التركيبات الاجتماعية قد تتخذ منحىً فرديا يناقض المفاهيم الدينية والإنسانية جمعاء حتى الليبرالية منها. فعندما ينشأ فكر معين ويتعمّق في أقلية ما مؤيدة بالقوة؛ فإنها تفرض مبادئها على المجتمع، وتسيطر على اتجاهاته، وتخفي مظاهر الإبداع فيه وتطمس هويته الحقيقة التي تضعه أمام المعرفات الحضارية، فالوظيفة بمعناها العام تشمل كل ممارسة فيها مسؤولية حتى ولو لم يحددها النظام مع أن المفترض أن تكون هناك قوانين مشتملة على كل تفاصيل المسؤوليات داخل الدولة، فكل إنسان بحسب امتيازاته لديه وظيفة، فالفقيه مثلا عندما يمارس وظيفة التعليم الديني، والفتوى يفترض فيه أن يكون متجردا عن نزعاته الخفية، وبما أن هذا المنصب له تعلقاته السماوية، وتلامساته النبوية، فقد يتسرب إلى من يؤديه، دعوى أن كلامه، وآراءه لها نوع من القداسة، أو لذاته تفرد خاصي، لذا كان قول العالم قديما في البيت المشهور: ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي/ لأخدم من لاقيت لكن لأخدما() مخالفا للنهج القرآني «قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين» ونحن لو تأملنا في بيت الشعر لوجدنا نزعة ذاتية سلطوية استبدادية في صورة مجتزأة متشظية في حجم يناسب هذا الشخص، وقد جاء في كتب التلقي عن العلماء الكلام عن حالة الشيخ وتقلبات مزاجه ومراعاتها وهذا ما أسميه بالعقد النفسية، وسآتي إليها لاحقا، ومثل ذلك تماما الموظف الحكومي الذي يكيف النظام من منظوره هو وتتداخل شخصيته مع مهام وظيفته والصلاحيات المنوطة به، فيكون رضاه، وقناعته -التي ربما تكون خاطئة- هي المقياس في ظل تجريد النظام من تمثله الظرفي، وإبعاده عن مقتضاه المصلحي، لتكون المصلحة الشخصية هي الأساس، وهنا يجدر بنا أن نعود لموضوع العقد النفسية؛ فكل إنسان لديه عقده التي نشأت معه منذ الصغر، وقد تؤثر على حياته تماما، وسلوكه بحيث يتم التنفيس عنها في إطار الوظيفة فتأخذ الصبغة النظامية ويصبح عندها العمل، وفقا لنزعة ذاتية مشوهة، وهو ما يجعلنا ندعو إلى وجود شخصيات فذة ومتكاملة تنزع إلى التجرد والموضوعية، وهذا يتحدد عندما تكون الدولة دولة عقليّة علميّة لا دولة خرافيّة أسطوريّة، ويلفت العروي إلى أرنست كاسيرر، لإبراز أطروحة أعداء «الدولة في ذاتها»()؛ لأن دولة هيجل هي الدولة العقلانيّة التي لا تتحكم فيها النزوات الفرديّة أو العقد النفسية وتربي الناشئة حسب مفهومها «هي» وتوحد التنظيمات تحت نسق لا تمايز فيه مجسدةً للروح القوميّة والجنس الجمعي لا العنصر الفردي، وهي الروح المطلق الشامل المنطلق في ثلاثية متعالية عند هيجل نحو الكمال الإنساني والحرية الإيجابية ولا يكون ذلك إلا في دولة كاملة الإنسانيّة يسودها القانون ويحكمها الضمير. جورج هيغل خالد الغيلاني