مَنْ منّا لم يعشق (الشك السقراطي)، ومَنْ منّا لم تُعجبه أسئلة سقراط، التي كانت غايتها أن يختبر ما يسمع وينخله، ويُسرّ بها حين قراءتها، ويُشفق على سقراط في نهايته المأساوية، التي كانت تلك الأسئلة سببها وعلّتها؟.. اشتهر بيننا (الشك الديكارتي) وصرنا لا نسمع كلمة (الشك) إلا حضر معها ديكارت، ولا ترد كلمة ديكارت علينا إلا جذبت معها الشك، وهو ارتباط وثيق بين الأمرين، أحدهما يأتي بصاحبه حين نذكره، ولعل كل مَنْ له علاقة بالفكر الحديث يجد هذا الأمر، ويسمح لي بقوله. ليس من غرضي هنا أن أدرس أول داع للشك، وأتتبع ميلاده، وأقضي بين الناس المختلفين حول الغزالي وديكارت، وأيّهما كان أولُ، وإن كنتُ ربّما عُدت لهذا لاحقا، وإنما قصدتُ أن أُذكّر بأن سقراط كان أحد دعاة الشك، ولم يكن هذا فحسب بل كان معلما له أيضا، واتّخذ من الحوار وسيلة في دعوة الناس إليه، وحضهم عليه، فهو في رأيي أحد مؤسسي الشك بسائد الأفكار، وأنّ على الإنسان أن يتقي ما استطاع شائع الأفكار وذائعها، فليس بالشيوع والذيوع تُقاس الأفكار، ويكون الموقف منها، فالمنهج السقراطي قائم على "التدقيق في الفهم السائد على نحو واضح في جميع محاورات أفلاطون الأولى والوسطى" (آلان دو بوتون، عزاءات الفلسفة). و(الشك السقراطي) يفضل عندي كثيرا شك الغزالي وديكارت ويتفوق عليه؛ لأن صاحبه كان يمشي في الأسواق، ويُعلّمه الناس، ويسوقهم إليه، ودفع حياته ثمنا له، ولم يكن في حياة الغزالي ولا في حياة ديكارت ما يجعلني أُقارن بين دور سقراط في الشك ودورهما فيه، وحسبُ قارئ مثلي أن تقع عيناه على هذا القول في محاورة (فيدون) وفيه يحثّ سقراط تلاميذه على الشك في قوله وعدم الاستسلام له: "وإني أطلب إليكما أن تُفكرا في الحقيقة لا في سقراط، فإنْ رأيتما أنّي أتكلم حقا فوافقاني، وإلّا فقاوماني بكل ما وسعكما من جهد، حتى لا أخدعكما جميعا كما أخدع نفسي". أعظم ما انتفعتُ به من سقراط، وما زلتُ أدين به له، وأراني سأشكره له بقية عمري؛ أنّني لم أعد أقبل أيّ شيء دون مساءلته والاختبار له، وهذا ما جعلني أبدو أمام الناس أروم مغاضبتهم وأقصد إلى مخالفتهم، ونحن البشر للأسف هكذا، لا تكاد تجد أحدا صغُر أم كبر إلا وهو ينتظر من سامعيه التسليم لقوله، والخضوع له، ومتى بدَر من امرئ سؤال، أو أطلّ منه استفسار؛ حُمِل على قصد التشويش على القول والاعتراض عليه والانتقاص من قائله، وكأننا قد اشترطنا على غيرنا، قبل أن نُحدّثه بما عندنا، أن يقبل بما جئناه به، ويستسلم له! إنّنا نشعر أمام مَن يُخالف رأينا، ويرى بغير عيوننا، أنّنا مستهدفون شخصيا من قِبَله، فهو يبحث عن أخطائنا، ويُفتّش عن زلاتنا، وتبدو القضية بوضوح أكثر في فرحنا بمن وافقنا، وأيّد رأينا، ووقف معنا، ولستُ أستثني نفسي من ذلك، فمن ذا يُطيق أن يُقابل شخصا كسقراط، يفحص كلماته، ويُدقق في معانيه، ويُظهر أمام الجمهور ضعفه؟! الجميع ينفر من ذلك، ويمتعض منه، وربّما رآه من سوء الأدب وصفاقة الوجه، ولكن الجميع، إلّا مَنْ رحم الله، يقف هذا الموقف حين لا يُعجبه الرأي، ولا يسوغ عنده النظر، فتراه يُحاكم القائل، ويتسقط عليه كلماته، ويودّ لو أبطل قوله، وفَلَج مذهبه، وليس بعيدا أن يكون هذا المعترض أو المقاتل قد تمثّل قبل ذلك بقول أبي العلاء المعري: أمّا اليقينُ فلا يقينَ وإنما... أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدسا إنّه يريد من غيره أن يشك في رأيه، ويرتاب مما عرفه، وحين تكون الدولة عليه، ويجد من يُطالبه بمثل ذلك، يرى ما يجري إهانة له، وتعدّيا على شخصه، فهو لا يُفرّق بين نفسه ورأيه، ويُعامل غيره على فرض أنّهم يُفرّقون، وإنْ لم يفعلوا فذاك عنده مقتضى العقل ودعوة الحق، وكان واجبا عليهم أن يعرفوه! مَنْ منّا لم يعشق (الشك السقراطي)، ومَنْ منّا لم تُعجبه أسئلة سقراط، التي كانت غايتها أن يختبر ما يسمع وينخله، ويُسرّ بها حين قراءتها، ويُشفق على سقراط في نهايته المأساوية، التي كان تلك الأسئلة سببها وعلّتها؟ ومَنْ منّا لم ير في خصومه أعداء للتفكير، ومناهضين له؟ بل مَنْ منّا لم يَعْجبْ من أن تكون نهاية هذا الحكيم في أرض الحكمة ومَهْدها؟ ومن منا لم يقل: ما الفائدة من ادّعاء أثينا للحكمة، وانتسابها إليها، ومن ورائها أُوروبا الحديثة، وقد أُقيمت محاكمة لأستاذ الفلسفة، انتهت بقتله والقضاء الأبدي على أسئلته؟ ومن منّا لم يخطر في باله هذا السؤال: إذا عجزت أرض الأسئلة عن استيعابها والقبول بها؛ فمن ينصرها ويقف في صفّها؟ كثيرٌ يحملون لسقراط ألما، ويرون أثينا آثمة في حقه، ويرجون لو كانت الدولة لهم في تلك الحقبة، حتّى يدفعوا عنه الميتة، ويحظوا من نصرته بالسمعة، ولكنّهم يرفضونه لو عاش بينهم اليوم، واختبر آراءهم، ووقف بمنهجه الشكي أمام قناعاتهم السائدة ومعتقداتهم الرائجة، وما بعيدٌ أن تُختم حياته بمثل ما لاموا أثينا عليه وانتقدوها فيه.