متَّع الله تعالى الإنسان بالحواس الخمس: السمع والبصر واللمس والذوق والشم؛ ليتعرف من خلالها إلى الوجود المحيط به، وجعل لعمل تلك الحواس شروطاً وحدوداً تتوقف عندها، وهذه الحواس تعمل بشكل طبيعي غير مرهق ولا مكلف، ونظراً لإلفنا لها فإننا لا نحاول معرفة كنه عملها، بل نظن أنه بسيط للغاية، كما أننا لا نعرف وظيفة هذه الحواس في عملية الإدراك. ولا شك في أن الجهل بهذه الأمور يؤثر تأثيراً كبيراً في نوعية فهمنا للأحكام العقلية التي نصدرها على الأحداث والمواقف من حولنا. ولعلِّي اليوم أشير إلى شيء من ذلك عبر النقاط الآتية: 1 - الحواس عبارة عن وسائل وممرات لنقل (صور) متنوعة عن الأشياء التي نتصل بها من خلالها، وهذا يعني أن هذه الحواس يجب أن تكون جيدة حتى يكون النقل جيداً، فحين يكون البصر ضعيفاً مثلاً فإنه لا ينقل الصورة بالوضوح والتحديد كما يريدها الدماغ، وهذا يضلله عند إصدار الأحكام على تلك الصورة أو نسبة بعض الأشياء إليها، وحين يكون السمع ضعيفاً فإن بعض الكلمات المشتملة على العديد من الأصوات الضعيفة كالأصوات المهموسة مثلاً قد لا تتمكن الأذن من التقاطها، وهو ما يعني أن السامع لا يسمع كامل العبارة، وقد قالت العرب في مَثَل عتيق: (أساء سمعاً فأساء إجابة) أي: أساء السمع، فأساء في الجواب على ما سمع. ومن هنا فإن علينا حين نرى شيئاً أو نسمع عن شيء أن نتأكد أننا رأينا وسمعنا بعيون وآذان جيدة. 2 - إذا كانت الحواس عبارة عن أدوات لالتقاط الصور والمثيرات المختلفة؛ فإن هذا يعني أن (العقل) هو الذي يسمع ويرى على الحقيقة، وليس الأذن والعين. إن الله تعالى وهبنا إمكانات ذهنية عظيمة، ووهبنا بعض المبادئ والبديهيات التي تشكل ما نسميه (العقل الأول) أو (العقل الفطري)، وهذا العقل هو الذي يستقبل ما ترسل به الحواس، والعجيب أنه يتعلم مما يرده، ويستفيد منه كل خبراته، لكنه مع ذلك يظل قادراً على الحكم عليه وكشف ما فيه من زيف وتحريف! ما نكسبه من معارف وخبرات وتجارب يعيد العقل إنتاجه وصياغته من جديد، وغالباً ما يصوغه في شكل مفاهيم وأفكار وملاحظات، أي: أن العقل يجسِّد ما عقله عن طريق استخدام اللغة، ويصبح هذا المعقول بعد ذلك مادة للتفكير والتداول والتطوير... ومن مجموع ما تمت معالجته وقولبته على يد العقل الأول يتشكل لدى الإنسان (غشاء ثقافي) أو (نظارة عقلية)، ومن خلال ذلك الغشاء أو تلك النظارة نرى الأشياء من حولنا، وهذا يعني أن لكل واحد منا منظوره الخاص ورؤيته المتفردة. ومما يروى في هذا السياق أن شاباً من إحدى القرى القريبة من (أثينا) وفد إلى أثينا ليتلقى العلم عن (سقراط) فسأله (سقراط): كيف تركت أهل قريتك؟ فقال الشاب: أهل قريتي أهل كرم وشهامة ومروءة وهم في حال حسنة، قال (سقراط): أهل (أثينا) كذلك. وبعد سنوات قليلة وفد على سقراط شاب آخر من القرية نفسها، فسأله سقراط عن أهل قريته، فقال الشاب: أهل قريتي أهل لؤم وسوء، ولديهم الكثير من المشكلات. فقال سقراط: أهل (أثينا) كذلك! ومراده أن النظارة التي رأى من خلفها كل شاب من الشابين أهل قريته هي النظارة نفسها التي سيرى بها أهل أثينا، مع أن وضعيتها قد تكون مختلفة عن وضعية تلك القرية. هذا يعني أن هناك واقعاً محدداً لكن الناس ينظرون إليه من زوايا مختلفة وعبر أغشية ثقافية متباينة وحين يعبِّرون عن رؤيتهم له فإنك تشعر أنهم لا يعبِّرون عن واقع سائد في بلد واحد، وهذا ملموس جداً فلو سألت عدداً من الشباب المشتغلين بالدعوة عن حال الصحوة الإسلامية في البلد الذي ينشطون فيه لسمعت أجوبة متباينة، وكلما خضت معهم في التفاصيل أكثر وأكثر لمست تبايناً أكبر، وهذا كله يشير إلى ضرورة الاهتمام بنوعية التثقيف الذي تتعرض له الأجيال الجديدة؛ فنحن إذ نعلِّم ونربي نمنح مناظير ونظارات لمن نعلمهم، أي: أننا نحدد الكثير من اتجاهاتهم والكثير من أسس إدراكهم للواقع وأسس تفاعلهم معه. 3 - نحن ننظِّم ردود أفعالنا على أحداث الحياة من أفق ما عقلناه من تلك الأحداث ومن أفق تفسيرنا له وفهمنا لأسبابه وعلله، فإذا كان ذلك صواباً أو قريباً من الصواب فإن ردود أفعالنا تكون راشدة أو أقل خطأ، وإذا كان خاطئاً أو مشوَّهاً فإن ردود أفعالنا عليه ستكون كذلك. ومما يروى في هذا السياق أن رجلاً كان راكباً في قطار ومعه طفلان صغيران، وقد كانا يتحركان داخل المقطورة بسرعة محدثين نوعاً من الإزعاج، وبعد مدة نفد صبر الركاب، وطلبوا من والد الطفلين وضع حدٍّ لذلك، فلم يتكلم الرجل، لكن نفرت دمعة من عينه أثارت شفقة الركاب، وسألوه عن السبب، فقال: إن والدة الطفلين ماتت وقام بدفنها منذ ثلاث ساعات، ولا يستطيع في هذا الظرف الضغط عليهما، وهنا انقلب موقف الركاب من الصغيرين رأساً على عقب، حيث قاموا بإكرامهما وملاطفتهما غاية الملاطفة. إن من المهم دائماً أن ندرك أن إدراكنا لما نريد إدراكه لا يكتمل أبداً، كما أن من المهم أن نتوقع أننا لا نفهم الأمور دائماً على النحو المطلوب، ولا يفهمنا الناس على النحو الذي نريده، والمطلوب تحسين مستوى كل ذلك والحذر من سوء الفهم ولا سيما حين تكون تكلفته باهظة. والله الموفق.