كان سقراط يرى أن مشكلة الإنسان الكبرى هي في علاقته بأخيه الإنسان، فهي أكبر من مشكلة علاقته بالطبيعة، وفيها يكمن التحدي الأعظم، وفيها حرَّر مبدأه الأخلاقي الذي استفادت منه مدارس شتى في التاريخ في تأسيس العلاقات الإنسانية، بعدم مكافحة الشر بالشر، وأنه خير لنا أن نتحمل الظلم من أن نمارسه، وأن التغيير الاجتماعي ينطلق مع ممارسة الواجب، أكثر من المطالبة بالحقوق، وأن الالتزام الأخلاقي هو الناظم المحوري في الحركة الاجتماعية، وأن البحث عن الحقيقة يجب أن تشكل نهم الإنسان الأول، بغض النظر عن الجانب النفعي فيها، في تشكيل عقل نقدي لا يعرف التقاعد أو الكلل في محاولة الاقتراب من الحقيقة، كما بشر آينشتاين لاحقاً، بأن اكتشاف الحقيقة مرة واحدة لا يكفي، بل لابد لها من الصقل المتواصل، في منظومة معرفية انقلابية. العلم والتعليم إذاً ليسا جمع معلومات، ولا شحناً لبطارية الذاكرة، وإن كان هذا يلعب دوراً فيه، ولكنها عملية عقلانية تنزل إلى مفاصل السلوك كي يؤدي مشية سوية على صراط مستقيم. كان سقراط فلتة عقلية وبالتعبير الطبي (طفرة). مع هذا فقد حكمت أثينا الديمقراطية بإعدام سقراط عام 399 ق. ب. والسؤال ما هو هذا الجرم الكبير الذي حكم على العقل الكبير أن ينطفئ في أثينا؟ من الضروري الإحاطة بظروف إعدام هذا الرجل، فقد عاشت أثينا القديمة فترة من الزمن تنعم بنوع من الحكم الديمقراطي السيادة فيه لعامة أبنائها، ولكن ما كادت المدينة العريقة تنهزم في حربها مع إسبرطة حتى انتكست فيها الديمقراطية، فقد أعاد الإسبرطيون فلول الأرستقراطية الأثينية إلى الحكم فنكلوا بالديمقراطيين وحكموا على كثير منهم بالإعدام دون مقاضاة أو محاكمة. كان عصراً أسود لف أثينا بظلامه. ولكن الخلاص كان في الطريق فقد عاد (تراسبيولوس) بعدد قليل من أتباعه فانضم إليه أنصار الديمقراطية، واضطر الإسبرطيون أن يمكِّنوهم من حكم البلاد، ولكن ما إن مضت خمسة أعوام وحل عام 399 قبل الميلاد حتى اقترف هؤلاء ما رأت فيه الأجيال اللاحقة وصمة عار في جبين الديمقراطية الأثينية لا يمكن أن ينساها التاريخ. كانت ثروة البلاد في هبوط، فراح كثيرون يبحثون عن كبش فداء يوجهون إليه اللوم، وكان الشعور سائداً بأن الفضائل اهتزت، وكان المسؤولون عن ذلك في نظرهم فئة من المعلمين ذوي الأفكار الجديدة يتقدمهم معلم يعمل نحاتاً يقال له (سقراط). والحقيقة أن سقراط لم يترك كتباً تحمل آراءه، وإنما نقلها إلينا تلميذه (أفلاطون)، ولم يكن لسقراط من عمل سوى التجول في شوارع أثينا مغرياً الناس بالجدل والمناقشة، دافعاً إياهم عن طريق السؤال والجواب إلى البحث عن المعرفة الحقيقية والفضيلة، ولكي ينهض بتلك الرسالة كان لابد من التشكيك في كثير من الأفكار السائدة، وهكذا أثار سخط عدد من الناس عليه فاتهموه بالمروق الديني وإفساد الشباب. وقُدم الفيلسوف إلى المحاكمة، وكانت محكمة غريبة تتكون من 565 قاضياً كان اختيارهم من العوام بالقرعة العمياء، أي بحبات الفول، كما كانت عادة الأثينيين في اختيار موظفيهم، وهكذا فقد كانوا خليطاً من بائع متجول، ومتسكع عربيد، وقصاب، وصياد سمك، ومرابٍ. وهكذا؛ فالديمقراطية بدون وعي تكون أحيانا كارثة.