لقد كانت المناداة لربط المسرح بالتراث العربي قديمة جداً، وربما أنها بدأت من خلال مارون النقاش، وأبو خليل القباني رغم ما واجهه في تجربته، وما نادى به يوسف إدريس من خلال إحداث شخصية الفرفور الشعبية ذات الأصل العربي المصري، وما توصل إليه كذلك علي الراعي في دراساته المتعددة، وروجيه عساف من خلال الشكل المسرحي العربي المتمثل في الحكواتي ودعوات الاحتفاليين الطيب الصديقي وعلوله وبرشيد وسعدالله ونوس وعلي أحمد باكثير وآخرين، وهي بلا شك إرهاصات لأهمية حضور المسرح العربي ذي الشخصية المستقلة وتأصيله وإبعاده عن تقليد وهيمنة المسرح الغربي. إن التوجه الصادق والحقيقي إلى الموروث الشعبي وربطه بالمسرح يعني فهم التراث ورفع أثره ومنابته والغوص فيه بشروطه وتشريعاته بعيداً عن مغالاته، وهذا قد يؤدي للحفاظ على الموروث من حالات الإقصاء والتقزيم والدونية المقيتة القاصرة التي تتجه إليه أحياناً ويستند عليها..! وهنا تحديداً تبرز الأهمية وتكمن في روعة التصدي لهذا الكائن المزدوج (المسرح/ الموروث)، ورعايته وكيفية توظيفه والاتكاء على الجسور الموصلة والمداميك الصلبة له، ولذلك لم يكن أرتو ويورجينيف وشكسيبير مخطئين حينما قرروا الاستعانة بالموروث والعودة للجذور في بعض أعمالهم المسرحية والملاحم التي عملوا عليها، وخاصة على مستوى المضمون في التراث وماهية الشكل الذي يقع عليه اختيار هذه الثيمة التراثية، والاختيار هنا ليس من أجل الحضور المضطرب والمقلق، لكنه الحضور الذي يجسد ويعبر ويقترح ويتكيف ويقنع من خلال أدوات الاتصال، وأعني هنا تحديداً -المسرح-، وعلى هذا نستطيع أن نضع أيدينا هنا على مهمة الموروث الصلدة رغم خطورتها، ونتوجه معها صوب القبلة الجمالية، والتي ستجد المجال الواسع لبحث الخبايا الكامنة خلف وأمام تجسيد -المعنى- الفني وحقيقية المضمون والشكل والعلاقات المرتبطة بحواس الفنان، والمعنى هنا هو اللاعب الرئيس في مضمون العمل الفني والنسيج العام وسبر أغوار المرحلة، لأن الفنان الملتصق والمهموم بالتراث سيضيء من دون أن يشعر مدرجات ومعارج السمو المسرحي والحس الفكري المستند للتفكير والعقلانية والصدق الذي يبني لنفسه عوالم باذخة وعناصر مساندة وفق هارموني منظم للصورة المشهدية والتعبيرية البديعة، شأنها رفع الذائقة وتقرير المصير النوعي وكتابة مشروعية وقانون (التشكيل والبناء) اللذين يظهران مع بعضهما البعض، وجنباً إلى جنب في وقت واحد، على الرغم من بعض الاستثناءات وحالات التنافر والابتعاد والمقاومة الشابة التي خلقتها كما أعتقد بعض الظروف من دون سبب وجيه. من الطبيعي أن يهتم المسرح السعودي الذي تجاوز عمره الفني الثمانية عقود بحسب الدراسات المهتمة بهذا الشأن بالموروث الشعبي، بل ويستدعيه في كثير من الأعمال المسرحية التي قدمت، وخاصة في الأحساء والدمام وعسير والمدينة المنورة والرياض والطائف والقصيم وغيرها، وكان للفنان المسرحي السعودي الحضور الفاعل في هذه الأعمال كتابة وإخراجاً وتمثيلاً، بل واستطاع توظيف الموروث وإحالته مشهداً بصرياً إبداعياً، بدليل ما كان على سبيل المثال لا الحصر في مشروع الشيخ أحمد السباعي المسرحي، ومسرحية موت المغني فرج لعبدالعزيز السماعيل، ومسرحية رسائل الشرقي وأيامه لعبدالرحمن المريخي، ومسرحية عرش والفجر الدامي لإبراهيم ماطر الألمعي، ومسرحية شدت القافلة لفهد رده الحارثي، ومسرحية ديك البحر لراشد الشمراني، ومسرحية موت المؤلف لسامي الجمعان، ومسرحية الشرقي الذي فقد لياسر الحسن، وغيرها الكثير ممن وصل لمعاقل وحصون التراث الممتد في تجاويف هذه الأرض، ووقف على قلاع الدهشة، مباهياً بهذه القيمة الشعبية التراثية، ومفسراً لهذه الظواهر الدرامية التي تشكل وتفسر المساحة العظيمة التي خلفتها أعاصير الرياح والحياة حينما هبت في هذه المساحة الخضراء المترعة بما تحويه من أنساق اجتماعية للإنسان في المملكة العربية السعودية. الدعوة هنا وبالتأكيد هناك في أهمية حضور التراث السعودي وقضاياه وإشكالياته ومفاهيمه ومصطلحاته على مستوى الإجراء والفعل والمثاقفة في مختلف حقول الفن والأدب والمعرفة والدراما، بعيداً عن حالات التناص الذي يقود للتكرار الأعمى وربطه بالمسرح، لأنهما بحسابات الجمال والفكر يعدان (صنو الإبداع)، والأهمية تكمن في تكثيف المشروع المسرحي السعودي من خلال الجهات الرسمية ذات العلاقة والمباشرة، وتحديد المستهدفات التي نحاول الوصول لها، ودعم التجربة المسرحية السعودية، وتوظيف هذا التراث بشكل مغاير وإبداعي ومميز يذهب بنا دوماً في اتجاه وترسيخ الهوية وتعزيز حضوره كقوة ناعمة وباعثة للذات، وموصلة وصانعة لهذه المظاهر والأشكال المسرحية السعودية، باعتبارية أن حشد وجمهرة الموروث من أساليب التأصيل الحضاري والإنساني، التي تساهم في تتويج المسيرة الثقافية والاحتفالية كقوة ناعمة وحقيقية للمملكة العربية السعودية على مستوى فنون الطرب والأهازيج والأشعار المجالسية والفرجات الدرامية والألعاب الشعبية المختلفة. * ناقد ومخرج مسرحي أحمد السروي