يمتد تاريخ فن النحت في المملكة العربية السعودية لأزمان بعيدة، فمنذ فجر التاريخ وبداية حضور البشرية، استخدم العربي القديم جميع معارفه الحياتية ومهاراته البدنية ليبني مسكنا يأوي فيه ومكملات بنائية ومستلزمات معيشية، حيث استعمل خلال تلك العصور المواد الطبيعية، واضطر أن يعالجها كيميائيا ليزيد من جودة طِباعها من خلال دراسته لعلم الأشياء المواد والخصائص والطباع، فظهرت علوم خامات الأرض والنبات والحيوان وعلوم الكيمياء بشكل منظم كثيرا عما كان عليه سائدا من علوم الأولين من فلاسفة الإغريق، من خلال تجارب ودراسات وبحوث في جوهر الأشياء عند العلماء محمد بن سيرين، وابن سينا، وجابر بن حيان العربي الأزدي وفيلسوف العرب يعقوب الكندي القحطاني النجدي والمهندس بديع الزمان الجزري والحسن البصري ومحمد بن لاجين وخلف الزهراوي وعبدالرحمن الخازن ومحمد البيروني والإدريسي القرشي وبديع الزمان بن عز وأحمد النوراني ومعروف الدمشقي وبنو موسى وحارثي الدمشقي ومن تلاه في تطوير علم المعادن وسبكها وتكفيتها "الأحجار الكريمة" والفلزات "الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها" وعلم الأشكال والحجوم والبصريات وتصنيع العدد والأدوات العلمية والميكانيكية الإنتاجية، ولهم السبق الحضاري في بناء القباب ورسم خرائط وحساب مقاس ووزن الأرض وصناعة الإسطرلاب ومضخّة الماء والساعة والميزان الدقيق وأدوات الجراحة الطبية، وبناء الجوامع والقصور والأسواق والحدائق والمدارس والمستشفيات وبناء المدن وإنسانها وصناعة المنتجات والحلي والمجوهرات وحتى الكتابة على فصوص الخواتم بخطوط بديعة، وتصنيع الأسلحة لحماية من يبنوه، منذ تأسيس المدن مثل البصرة الكوفة القاهرةالجيزةدمشق الحلة الموصل سمرقند بغدادالقيروانفاس قرطبة الزهراء وما بعدها، ومن خلال الشواهد الآثارية فأغلب المدن جنوب أوروبا بناها العرب والمسلمون، فمنذ دخولهم إلى أوروبا يلاحظ الباحث في فنون أشغال المعادن والنسيج والسجاد والورق والأقلام وفنون الخط والكتابة وتاريخ الفنون المعمارية والدراسات الحضارية أن علوم العرب وفنونهم وتصاميمهم قد أثّرت بشكل واضح في العمارة الأوروبية منذ القوطية، كما شرحت ذلك ديانا دارك في كتابها الصادر مؤخرا المعنون ب(كيف شكّلت العمارة الإسلامية أوروبا) يثبت أن العرب والمسلمين هم من أشعل شرارة النور والنهضة وإعادة الحياة والحداثة الأوروبية بعد عصور الظلام. اعتاد الإنسان العربي على التشكيل بالمواد والخامات الطبيعية وصنّع ما يستطيع من مواد لأغراض حياتية كفنون تطبيقية تشمل المسكن وما يحتويه من أدوات للزراعة والصيد والطبخ والحفظ والنوم والتخزين، استخدم الصوف لبناء الخيام، والخشب والقش للعرائش، والطين والحجر لبناء منازل من عدة أدوار، تلبي حاجاته وتعبّر عن هويته وأسلوبه وطريقته في بناء الأعمال وتشطيبها، ومع الخبرة وتناقل المهارات عن طريق التتلمذ وتوريث المهن المعمارية من الأجداد للآباء والأبناء ومن ثم للأحفاد، تناقل العرب معهم طرقهم في البحث عن أجود الخامات المتوفرة حولهم، وكيفية قطع الحجر ونقشه بالرسم أو بالكتابة من خلال حجر مدبب أقسى منه. ظل فن النحت تاريخيا كما تدل عليه المتاحف والمواقع الآثارية الحالية بين ضعف وقوة، من خلال حاجة البشر وقوتهم وإمكانياتهم العلمية والتقنية والمهارية، ويقابل ذلك الجمهور المتلقي أو العميل المستهلك لهذا الإنتاج الإبداعي الذي يؤدي أغراض ومهام يومية، من أدوات أساسية واكسسوارات خشبية أو خزفية أو معدنية أو حجرية، نجدها في القصور والمساجد والأحياء التاريخية في كل المناطق السعودية كالدرعية، لكن مع تأسيس الدولة السعودية رعاها الله، أولى الملك عبدالعزيز ومن تلاه من أبنائه وحكوماتهم عناية خاصة للمباني والإنشاءات والنهضة العمرانية والفنية والجمالية منذ بداية مشروع توسعة الحرمين الشريفين وحتى مبنى إثراء الثقافي بالشرقية ومركز الدراسات النفطية والمدينة المالية بالرياض واستاد ومطار جدة الجديد. استقطب منذ السبعينات أمين جدة الراحل محمد سعيد فارسي نحاتين فنانين ومهندسين ومصممين ميادين ومدن، لجعل مدينة جدة متحفا معاصرا مفتوحا متميزا عالميا، فاستقطب مثلا خوليو لافونتي الإسباني، هنري مور الإنجليزي، كالدر الأميركي، هارب، سيزرا، فازيللي، ليبشيز وصلاح عبدالكريم النحات المصري العظيم. كما استقطبت أمانة جدة الفنان السعودي منذ نشأته فصنعت مجسّمات وجداريات للأستاذ عبدالحليم رضوي في عدة مواقع بارزة على الطرقات والميادين، فشفيق مظلوم صنع بالحديد المعاد تدويره عدة مجسمات، ودرويش سلامة صغّر التراث المعماري بالجزيرة العربية على كورنيش البحر الأحمر، ومجسمات ضياء عزيز المبهرة بعدة مواقع مهمة أبرزها بوابة مكة، وهشام بنجابي بميدان الهندسة بشارع صاري. ومنذ تأسيس معهد التربية الفنية 1385ه يتم تدريس فن النحت بأغلب خاماته الخشب والحجر والخزف والمعدن والخامات المستهلكة، وتعليم النشء إدراك الخامات والشعور بجمالياتها والبحث والتجريب في صناعة أعمال فنية ذات فائدة ومتعة للإنسان، ومنذ تأسيس الرئاسة العامة لرعاية الشباب على يد الأمير خالد الفيصل أخذ فن النحت بالحضور في المعارض والمسابقات الفنية في جمعيات الثقافة والفنون والصالات الفنية، ولقد أحصيت سريعا أكثر من خمسين نحاتا وطنيا منهم من وصل للعالمية، أذكر على سبيل المثال لا الحصر (عبدالحليم رضوي، محمد السليم، ضياء عزيز، بكر شيخون، كمال المعلم، زهرة الغامدي، ناهد تركستاني، سارة خوج، محمد الثقفي، فيصل خديدي، علي مرزوق، سعيد قمحاوي، راشد شعشي، عبدالناصر غارم، علي وطلال الطخيس، زمان جاسم، علي الجاسر، عصام جميل، نبيل نجدي، صديق واصل، عادل خيمي، محمد الفارس، أيمن يسري، سامي جريدي وغيرهم كثير) يعبّروا بمختلف الخامات ويطرحوا عدة مواضيع فنية متنوعة بين التكوينات المجردة، والتشكيلات الخطية والزخرفية، حيث تتحدّث الخامات بالتعابير والمعاني عن تقنيات البناء والتصميم ومكامن الإثارة والجمال في الحجر أو الخشب، أو الخامات المستهلكة والتي تمثل جزءا من ذاكرة فردية أو جمعية في لغة وخطاب بصري مرئي مع الجمهور من خلال الكتلة واللون والملمس والظل والنور، ومضامين العمل من رمزيات ودلالات تواصلية بين شيئين. منذ تأسيس مؤسسة مسك الفنية ووزارة الثقافة بقيادة سمو الوزير بدر آل فرحان، رعت عدة ملتقيات نحتية متخصصة في الرياضوجدة والعلا، استقطبوا فيها أبرز نحاتين العالم والمحليين، لعرض تجاربهم ورؤاهم وطرقهم وأساليبهم في تشكيل الخامات المصنعة والطبيعية كالرخام عالي الجودة والجماليات. أعتقد أنه في ضوء رؤية السعودية 2030 سيكون في المستقبل القريب هناك إقبالا كبير على فنون النحت التطبيقية مختلفة المجالات والمقاسات من القطع المعقدة والضخمة والمجمّعة من عدة مواد وتقنيات متقدمة وحتى القطع المنحوتة بدقة وصغر متناهٍ يدخل ضمن أدق الصناعات؛ فجميعها تتطلب النحت والصب والسبك والتكفيت والتطعيم، وتشترط عمال مهرة في الرسم والزخرفة والتصميم والتلوين والبناء والتجميع والتشطيب، سيّما ونحن نعيش مضاعفة المحتوى المحلي، ووفرة الخامات الطبيعية وريادة في الصناعات الكيميائية، واستهلاك عالٍ للسكن والأثاث والإكسسوارات، وخططا لتنمية الصادرات وتنويعها وخفض الواردات، والنحت يحضر هنا في علم تصميم المنتجات الصناعية وفن العروض التجارية وجماليات التعليب والتغليف. * فنان وناقد تشكيلي محمد الثقفي كمال المعلم علي الطخيس