في تمام الساعة الثامنة والنصف أعددت قهوتي المعتادة وجلست على أريكة غرفتي تحاصرني أوراق تعيش فيها شخصيات جعلتها تحت رحمتي وقلماً أزرق ينزف حبرًا، أنهيت نصف القهوة وأنا أفكر، دائماً ما كان مبنى عملي في الجريدة يحجز أفكاري ويحبس أنفاس شخصياتي والمنزل كذلك، لما لا أخرج وأجعل أوراقي وما فيها يتنفس، وبالفعل خرجت وذهبت لحديقة بالقرب من منزلي. كان هناك رجلان، عامل النظافة والآخر يجلس على كرسي الحديقة ولم يبعد نظرة عني إلى أن جلست وأدرت ظهري في جهته بدا لي غريبًا لكن لم أهتم كثيرًا وقلت ربما يعرف من أكون وينظر ليتأكد. أخرجت دفتري وأسندته على حقيبتي وبدأت أكتب وأسرح في خيالي، سرعان ما احتضنتني أصوات الشخصيات وهي تتحاور داخلي، ولم يُعيدني للواقع سوى صوت سيارة المثلجات وصراخ الطفلان على البائع وهما يرددان: توقف.. توقف.. وهو يقول لا توجد مثلجات مجانية، تريدانها ادفعا، تركت ما بيدي على الكرسي وذهبت واتجهت نحو الطفلين واشتريت لهما المثلجات، أعادتني هذه اللحظة لسنوات مضت، ودعت الطفلين واستدرت باتجاه مقعدي ووجدت ذلك الرجل يجلس فيه وأوراق دفتري ممزقة وتملأ المكان، هرولت نحوه قائلًا: * أنت من فعل هذا؟ ولم يُجبني كان فمه مليئاً بشيءٍ لم أخمنه بالبداية لكن اتضح لي أنهُ مضغ إحدى أوراقي.. تساءلت!! ربما كان يعاني مرضا عقليا أو نفسيا دفعة لهذا الفعل، بصق الورقة وقال: * لا أحد يُعطينا مساحة مثلما تفعل أنت مع شخصياتك، تتخيل مشهد في عقلك وتشبك حروفه وتسمح للشخصيات بالتبرير والحديث والصراخ والبكاء وتنهي القصة برضا الطرفين، أما نحن على أرض الواقع نعاني من اختناق الكلمات داخلنا، ففي كل قصة هناك نصًا مفقودًا ابتلعه أحد أو جُبر على ابتلاعه، لا أحد ينصت للطرفين بل يكتفون بالإنصات لطرف واحد أو من يتحدث أولًا هو على حق، خيالك يضلل واقعنا للقراء. * أنعقد لساني بعد سماع الحقيقة التي لا أجرؤ على نكرانها، ثم أردف قائلا: أنسى نصًا أو أقفز نصاً، وعي المجتمع أن هناك نصوصا مفقودة يجب أن يبحثوا عنها، لا تكتب شيئًا مثاليًا وكأن حياتنا مثلما تكتُب بل اجعله مزيج بين الواقع والخيال والمعاناة، أيضًا وأنا عاجز عن الحديث ربتّ على كتفهِ.. وقف وتبادلنا النظرات نظرة معاتبه ونظرة ترد بمحاولة إنكار، وذهب.. جلستُ ولم أبال لتلك الأوراق التي أحييتها داخلها شخصيات بقيت تناديني في عقلي أكملنا.. أكملن، سرعان ما نطق لساني بعنوان لقصة هذا الأسبوع.. "النص المفقود"، أمسكت حقيبتي وهرولت نحو المنزل لأكتب رسالة للمجتمع، لا تنصت بأُذُن واحدة، بل أنصت بالأُذنين ولتكن منصفًا.