دخلتُ خان الخليلي في القاهرة وكان الوقتُ متأخراً. مشيتُ في الأزقة الضيقة مكاناً، الواسعة شأناً وأحداثاً. جلستُ في قهوة الفيشاوي، حاولتُ أن أتخيَّل أين جلس نجيب محفوظ، ماذا رأى وسمع، ماذا شمّ، ماذا لمس، وكيف كانت الحياة عندما عاش هناك؟. حاولتُ الغطس في ذاكرة المكان حتى أفهم كيف كتب (بين القصرين وقصر الشوق والسُّكّريّة وأولاد حارتنا). بعد دقائق، اكتشفتُ أنني لستُ مضطراً لفعل ذلك، وكل ما عليّ فعله هو طلبُ كأس من الشاي، ثم ترك حواسي تنسابُ مع أحداث المكان كيفما جاءت. خلال ساعة واحدة فقط رأيتُ أناساً وشخصيات تكفي لملء رواية كاملة. يقول نجيب محفوظ عن مسيرته الكتابية: «كنتُ أجلس في قهوة زقاق المِدَقّ وأشعرُ أنني جالس في قطعة من التاريخ القديم». كان ذلك قبل أن ينتقل للفيشاوي. وسؤالي لزملائي الكُتاب الخليجيين: هل يوجد ركن في مدنكم يشعركم بهذا؟ مناسبة هذا السؤال أن كُتّاب الأدب – الرواية والقصة على وجه الخصوص – في الخليج يُتَّهَمون بأن حكاياتهم بعيدة عن واقعهم. يكتب أحدنا قصة تدور أحداثها في فرنسا أو إيطاليا، وقلّما تجد من يكتب عن بطولات مجتمعه وانكساراته وأحلامه ومشكلاته.. لكن مهلاً، هل توجد هذه التفاصيل في مجتمعاتنا أصلاً؟ اخرج من بيتك وفكّر أين يمكنك أن تلتقي بالناس؟ فَهُم المواد الخام لأي رواية. أول وجهة، وقد تكون الوحيدة، هي المركز التجاري (المول). تدخل فترى نُسخاً مكررة من البشر: أنيقين جداً، انطوائيين في حديثهم، فضوليين في نظراتهم. يلبسون أفضل الساعات والأحذية والخواتم. يحملون أغلى الحقائب، يصبغون وجوههم بألوان الطيف، ويبدون في كامل أناقتهم كأنهم ذاهبون إلى عرس أو مناسبة رسمية. المحلات واجهاتها نظيفة وفاخرة، الممرات مُسطّرة ومعطّرة، الحمامات في غاية التعقيم، كراسي المقاهي فخمة ومريحة، أطراف الطاولات ملساء وسليمة وليس بها ثُلْمة. كل شيء مستورد، حتى القهوة والأحلام. كل شيء «بخير»، كل شيء على ما يُرام. لا شحاتين يمرون إلى جانبك، لا خوف من نشّالين، لا صُراخ، لا ثياب ممزقة، لا مياه تملأ الأرضيات، لا بُكاء أطفال، لا روائح غريبة، لا عازفين في الطُرقات، لا ضحكات عالية، لا مُهرّجين أو رسامين.. باختصار: لا شيء يدعو إلى الكتابة، فلماذا نلوم الأديب الخليجي إذا هرب وكتب عن مجتمعات متنوعة، متناقضة، متعددة الأشكال والأعراف؟ وحتى إن تجرّأ الكاتب مِنّا وذهب إلى القرية، سيجد (المرسيدس والرِنج روفر) تقفان أمام بيتٍ ثمنه أقل من ثمن سياراته! وإذا خرجت فتاة من ذلك المنزل فإنها ستحمل في يدها حقيبة (شانيل) نفسها التي تحملها فتاة المدينة، حتى وهي تذهب إلى الكليّة أو العمل. مجتمعات مخملية كهذه لا تُلهم للكتابة، ولا تدعو للدهشة والتساؤل، وبالتالي لا تستفز ذهن الأديب. هذا لا ينتقص منها، فالرفاه الاقتصادي مطلب كل شعب، وواجب كل حكومة، لكنني أتحدث عن الأصالة، عن عدم ارتداء الأقنعة، عدم استنساخ السعادة، عدم الذهاب إلى المطاعم نفسها، وعن لبس الإنسان ثوبه الخاص به، لا ثوب المجتمع. عندما يقرأ أجنبي أعمال نجيب محفوظ يُذهَل من عبقرية الوصف وبناء الشخصيات وتداخل الأحداث، لكنه لو زار قهوة الفيشاوي أو دخل حواري العبّاسية لاكتشف أن محفوظ صوّر ما رآه. لا يعني هذا أنه لم يكن عبقرياً، بل يعني، إلى جانب ذلك، أنه كان محظوظاً بالبيئة التي نشأ فيها. يقول محفوظ إن الحارة في كتاباته كانت أكبر من واقعها، كانت رمزاً للدنيا والبشرية، ولأنها كذلك فإنها احتاجت لمركز روحي تنبع منه القِيم والمبادئ؛ فدخلت في قصصه (التكيّة) الصوفية التي كان يمر بها في الحي وهو صغير ويشهد تقاليد المتصوفة وأهازيجهم، فجاءت كرمز للنقاء الإيماني في الحياة. وعلى نقيضها، كانت (العوالِم) أي الراقصات، في قصصه صورة للمقنّعين بالشّرف ومدّعي الحياء، الذين يعيشون في الوقت نفسه حياة لا أخلاقية. وكان (الفِتوّات) في رواياته يمثلون رمزية الزعيم أو المسؤول بحالاته المختلفة، بظلمه وعدله، بضعفه وقوّته. هكذا كان عالم نجيب محفوظ الملهم، فأين عالم الأديب الخليجي؟ أين هذه الفسيفساء المجتمعية بتناقضاتها المستفزّة؟ في الحقيقة لا أدري، ولا أعلم متى سيتمكن أحدنا من الكتابة عن مجتمعه ما يستطيع أن يُبهر به العالم؟ فقارئ الرواية والقصة لا يريد أن يسمع عن نجاحاتنا وإنجازاتنا، التي رغم أهميتها، إلا أنها لا تصلح للأعمال الأدبية. أنا لا أدعو الكاتب الخليجي للكتابة عن الماضي، لأنه لم يعاصره، لكن أتمنى أن يكون أكثر شجاعة لتصوير صراعاته الفِكْرية والقِيَميّة في قوالب أدبية، لأنني أظن بأن هناك كثيراً لنحكي عنه إن استطعنا أن نكون أكثر جرأة على الاعتراف والنقد.