اقتصاد سعودي قوي    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    مستقبل جديد للخدمات اللوجستية.. شراكات كبرى في مؤتمر سلاسل الإمداد    الزمالك يسقط في برج العرب ويواجه أول هزيمة في الدوري    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    تأثير اللاعب الأجنبي    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    الأوركسترا السعودية    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    «وسم حائل».. فعاليات متنوعة وتشكيلات فنية    ارتباط وثيق بين السكري والصحة النفسية    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    قوة المملكة الاقتصادية ورفع التصنيف    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    إسرائيل تستهدف قياديًا في «حزب الله»    بوتين: الحرب في أوكرانيا اتخذت "طابعًا عالميًا"    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    المدى السعودي بلا مدى    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    «الرياض» تفصلهم وتجمعهم    «سلمان للإغاثة» ينظم زيارة للتوائم الملتصقة وذويهم لمعرض ترشح المملكة لاستضافة كأس العالم 2034    جمعية تآلف تحتفل باليوم العالمي للطفل بفعاليات ترفيهية وبرامج توعوية    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    اختتام المؤتمر العربي لرؤساء أجهزة مكافحة المخدرات    ضبط شخص في عسير لترويجه الحشيش عبر مواقع التواصل    تعليق الدراسة الحضورية غداً بمدارس محايل عسير ورجال ألمع    بمبادرة سعودية.. الاحتفاء باليوم العالمي للتوائم الملتصقة    هل تعاقب دول غربية إسرائيل بحظر السلاح ؟    تأثير الذكاء الصناعي .. دفعت العائلة فدية لكنهم اكتشفوا أن ابنتهم لم تختطف    الطقس يهدد الولايات المتحدة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    1850 متدربا ومتدربة على المانجا في اليابان    الانسانية تحتضر    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    وزير السياحة يدشن شركة رملة للرحلات السياحية والمنتجعات البرية في حائل    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    5 مطارات تتصدر تقارير الأداء لشهر أكتوبر 2024    ترمب يرشح سكوت بيسنت وزيراً للخزانة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    معتمر فيتنامي: أسلمت وحقق برنامج خادم الحرمين حلمي    ضبط 19696 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    «الحياة الفطرية» تطلق 26 كائناً مهدداً بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفن لا يحتاج إلى الصراخ الايديولوجي كي يحقق ذاته . طامحاً إلى مجالسة الكبار، وباحثاً عن شهوة أعمق داخل الكتابة الأديب السعودي عبده خال: حين تبدع رواية فأنت سيد العالم !
نشر في الحياة يوم 16 - 10 - 2000

"الرواية ليست حجارة من غضب، إنّها أشبه بغزل قطعة حرير انطلاقاً من شرنقة"، هكذا يقحمنا عبده خال دفعة واحدة في صلب الموضوع، ويحدد رؤيته للكتابة الأدبية، معلناً نفوره من كل ما يرتبط بالشعار، أو بالمراكمة السطحيّة لأفكار من خارج النصّ الابداعي.
والروائي السعودي الذي يتعامل مع الكتابة بصفتها "شهوة"، و"اعادة اختراع للعالم من وجهة نظر ذاتيّة"، يعترف في هذا الحوار الصاخب، ب "غروره القلق"، مستدركاً أنّه يتعايش مع شعور دائم بالنقص، يحرّكه ويدفعه إلى البحث عن سبل التكامل والتجاوز. كما يؤكّد صاحب "مدن تأكل العشب" أن "الكتابة بإيمان هي سر العظمة الغائب عن كثير من الكتّاب".
ويعتبر أن "الواقع يتجاوز الخيال في أحيان كثيرة"، وأن "الحياة فوارة لا تستقر على حال، فنحن مصدر البهجة والاكتئاب". ويتطرّق، عشيّة صدور روايته الثالثة "الأيام لا تخبئ أحداً" عن "دار الجمل" في كولونيا، إلى علاقة القصّة السعوديّة بالمكان، كما يحدد مفهومه للكتابة إلى الأطفال، ويعلن أن الرواية السعوديّة "بدأت تدخل دائرة الضوء، فبعد عشرين سنة تخلصت الساحة من المعوقين واستمر من هو قادر على الركض لمسافات طويلة".
حين تتمعن في وجه ذلك الفتى الاسمر، تلمح شيئاً من براءة بعض شخصياته، وتقرأ أفكارها العفوية وصمودها المسالم. وحين تغور في أعماق ذاته تكتشف شخصية صلبة تجلد ذاتها لتنتزع لها مكاناً بين الكبار. إنه الروائي السعودي عبده خال الذي يحاول ان يتشبه بالكاتب الانكليزي الكبير ديكنز في بلورة عناصر تجربته الروائية وتقنياتها.
عبده خال عالم روائي محاط بالغموض والسرية، يسعى الى ان تتوهج روحه عبر أحداث رواياته التي يخلع عليها الكثير من السلم الغاندي في مقارعة القمع، ويحدد من خلالها رؤيته الى الكون، والى الاشياء. وفي هذا الحوار يكشف لنا "ديكنز السعودية" عن جانب من شخصيته التي تفضّل العتمة وتهرب من الظهور. كما تتكشف لنا من خلال اجاباته الحذرة الكثير من تفاصيل تجربته الروائية.
عبده خال المولود في إحدى قرى منطقة جازان، والنائي داخل أحراش تلك القرية، كيف يحدثنا عن أولوياته الثقافية وخطواته الأولى نحو الحرف؟
- هذا السؤال يحقق متعة لمن يطرح عليه، فمن خلاله يستطيع ان يعلق كل النياشين التي لم يحصل عليها في حياته، وربما أوغل مع الحديث عن الذات وأبحر مجدفاً في المياه العميقة ومدعياً ما ليس له او فيه. يا صديقي أريد أن أهرب من هذا السؤال، أريد ان أتجنب اعادة سيرة هامشية لم تحلم يوماً انها ستكون تحت الضوء، ولم يدر بخلدها ان ذلك الطفل المقذوف في قريته يهش اغناماً، او ينزلق عن مؤخرة حمار، وهو في طريقه إلى جلب غذاء. ذاك الطفل لم يدر بخلده انه سيصل أبعد من حقل أبيه العائد في الظهيرة يشتكي العصافير التي لا تمل من مضغ محصول الحبوب. ذاك الطفل نشأ هامشياً، ووجد نفسه معلقاً بخاصرة امه، ومنها عرف حكايات مشوشة وغامضة عن الخلق وعن الكون. إنّها سيرة طويلة لا يتسع لها سؤالك، هذا الحوار لا يتسع لحكاية بسيطة من حكايات ذلك الطفل الذي كنته.
سلطة الكتابة
اذاً ليكن مدخل الحوار عن رحلة الكتابة في حياتك؟
- وهل تتصور اننا قادرون على ابتسار تجاربنا الكتابية في سطور؟ هل جربت ان تبيت الليل من أجل مراسلة صحيفة تخلف موعدها، ولا تنشر لمن كاتبها وهو يظن ان كتاباته ستشق النهار وسيقف الجميع لها، لكي تصافح أعين القراء في صبيحة اليوم التالي؟ هل جربت مثل هذا الموقف؟ وهل باستطاعة لقاء ان يتحمل وصفاً لتلك الحالة الفريدة في حياة الكاتب، لحظة ان يرى اسمه مخطوطاً في جريدة او مجلة لأول مرة؟ أتصور انه لن يتحقق ذلك، ومن الاولى ان أكتب تلك البدايات بما يرضيني بدلاً من ابتسارها ابتساراً يشق عليّ فعله؟
هل تحاول أن توحي لنا بمعاناة تعيشها؟
- أنا أتصور ان كل انسان يرى انه عاش في أبأس حالة انسانية. نحن نصنع مآسينا ونضخمها، لدرجة الوصول الى يقين بأننا نعيش حياة مضنية حتى وإن كانت هادئة ووديعة، إننا نتمسك بحكايات وتجارب عبرتنا وكأنها كف من ليل مظلم، والفرق بين الكاتب وشخص آخر ان الكاتب يستقي من تلك الحياة فناً يرقى الى درجة المأساة الانسانية.
بدأت ككاتب قصة فما الذي أخرجك الى عالم الرواية؟
- البحث عن شهوة أعمق داخل الكتابة.
وهل الكتابة شهوة؟
- هي كذلك.
كيف؟
- هل جربت ان تكون الحاكم بأمر الله؟ اذا لم تجرب فاكتب رواية ستجد نفسك سيدا ولصاً ونبيلاً ومجرماً وشهماً، ستجد نفسك تحولت الى مركز الكون، وتحقق العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، تحقق عدالة الله في الكون وتنطق الصامتين وتعاقب الطغاة، وتبكي كحبيب هزه الوجد. وستمارس كل المتع المحرمة، وستأتي بسير أقاربك وأصدقائك وأعدائك وتحتفل بهم : ترسمهم وتشوههم وتنتصر لهم وتغضب منهم. تقدر ان تفعل ذلك من دون مساءلة او خشية من ان يقف احد ليقول لك ان عالمك حقير او مثالي... أليس في هذا متعة تراق من أجلها الدماء وتطأطأ الجباه: انها السلطة! السلطة المطلقة لك لوحدك وأنت تكتب.
روايتك الشهيرة "الموت يمر من هنا" نالت حظاً وافراً من النقد والتحليل، وقد اخذ البعض عليها الاغراق في التهويم والتحليق بالقارئ في أجواء تكاد تكون خارج نطاق الواقع. هل تحدثنا عن فكرة الرواية، وكيف اقتبستها من بيئة تكاد تخلو من كثير من العناصر التي انطوت عليها؟
- ان الحديث من خارج النص هو حديث مشوه يدخل ضمن مشاركة القارئ في صناعة الاحداث، وتحيزه لرغبته الذاتية في لوي عنق العمل الأدبي لكي يتوافق مع رغباته. وحين نتحدث عن المعقول واللامعقول، فنحن نخضع لمقولات جاهزة، بينما لو أعملنا العقل فسنجد ان الواقع يتجاوز الخيال في أحيان كثيرة، ونؤمن به من غير ان يهتز لنا ظن. إن النص الأدبي هو نص يمزج الواقع بالمتخيل بحيث يتمكن الروائي من خلق الايهام بأن ما يتحدث عنه ما هو الا واقع محض. وهناك نصوص أدبية كثيرة يمكن ان نأخذها كنموذج لما نقول : ماركيز في روايتي "خريف البطريرك" و"مئة عام من العزلة"، او أحداث "بيت من لحم" ليوسف ادريس، أو بعض أعمال ايزابيل الليندي او أعمال ألن بو او المثال الصارخ في رواية سوسكيند "العطر".
أما الجزء الآخر من السؤال، فيذكرني بمقولة سائدة حول الفن الروائي عندنا. فحين تباطأ ظهور الرواية لدينا، قيل ان السبب يعود إلى افتقار مجتمعنا للتجارب الكبيرة التي مرت بالدول العربية. وهذا القول مؤدلج، فالرواية ليست حروباً وشعارات رفض، وحتى على هذا المستوى فإن الرفض قائم في كل الأحوال: في اي بيئة، وضمن أي تجمع انساني هناك الرافض والراضي، والرواية ليست حجارة من غضب يمكن ان تقيم عمرانها، إنّها أشبه بغزل قطعة حرير انطلاقاً من شرنقة. وأي مجتمع مهما ظهر ساكناً هو في حركة دائمة، يمور ويتفاعل، حتى وإن لم يظهر ذلك على السطح. فالمدرسة الرومانسية لا تعرف من البحر الا سطحه الخارجي، بينما تسقط ذلك العالم المهول الذي يجري أسفل ذلك السطح اللامع.
فهل ما زلت مصراً على تثبيت قولك: "بيئة تكاد تخلو من كثير من العناصر التي انطوت عليها"؟! ثم ما الذي جعلك تتجاسر وتجزم ان تلك البيئة تخلو من كثير من العناصر التي انطوت عليها الرواية؟ فهل تعرف المكان والزمان الذي دارت فيه أحداث الرواية؟
أشك في ذلك، ولأنك لم تعش بؤس القرويين وطيبتهم وانكسارهم، سأسامحك على اقتراف هذا الإثم!
الكلام من خارج النص
أنا أقبل التهمة، وأشكرك على العفو، لكنّك بقيت بعيداً عن السؤال؟
- أنا أدعوك إلى الدخول في زمن الرواية ومكانها لتحكم. عندما تكون قارئاً للعمل، ندخل، أنت وأنا في لعبة متفق عليها مسبقاً. أنا أوهمك بعالمي وأنت تتواطأ معي على تصديقه. وأنا أمنحك ما أشاء وأنت تقبل به رافضاً او طائعاً. لكننا خارج هذا النص لا نتبادل اللعبة كما هي عليه في الكتابة. ونحن الآن خارج اللعبة الكتابية، لذلك ليس لي عليك سلطة الكاتب وانما الذي بيننا حوار نقبله او نرفضه: هذه هي اللعبة.
شخصيات الرواية تتميز بالتناقض والتضاد، بينما العدو واحد.
- إنّها استجابة طبيعية لثقافة السلطة في تاريخنا العربي الطويل. ولكن الذي لم أفهمه ماذا تقصد بأن شخصيات الرواية تمتاز بالتناقض والتضاد؟ فهل هذا مدح أتركه لك شاكراً، أم ملاحظة نقف حيالها للتوضيح؟
أوردت شخصيات كثيرة تصل الى أكثر من 15 شخصية رئيسية، بينما تتزايد الشخصيات الهامشية لتزيد على ال 50 شخصية، وهذه الأعداد تتوالد فيها التناقضات وفق مسار حدثي ولنأخذ درويش نموذجاً.
- لو أردت تفصيلاً فسوف أتحول الى ناقد لأعمالي، وأرى أنني أنجزت مهمتي بكتابة الرواية. اما هذا الأمر فلنتركه للنقاد او القراء.
درويش، شبرين، رعنا، عبده راجح، زيلعي شخصيات مناوئة للسوادي، لكنها صامتة ومكسورة لماذا اخترت لها هذا الانكسار والذل؟
- نحن أيضاً نتكلم خارج النص، أنت الآن في أسئلتك توجه دفة الحوار وأنا أتبعك. ولو خيرتني لاخترت وجهة أخرى. اذاً المسألة تخضع لظرفيتها، ومن يمسك زمام التوجيه، ربما أكون قادراً على رفض أسئلتك كلها، وبالتالي أنسف هذا اللقاء من أصله، فلا يحدث ولا ينشر! وربما تقول في المجالس ما حدث، لكنه لم يحدث فعلياً على الورق فينثني حكم الآخرين على ما حدث بيننا. فلماذا اخترتني للحوار ولماذا قبلت؟ هناك لعبة خفية بيني وبينك. أنت تريد اجراء حوار مثير، وأنا أريد ان أظهر وأتجمل أمام الآخرين، وأنت لست منكسراً أمامي، وأنا لست مطواعاً لك، لا أتجاوب مع ما تقول كما تتصور.
ما مفهوم الثورة؟
لماذا لم تختتم الرواية بثورة شعبية ضد السوادي؟ ام ان السكون طبيعة حقيقية للشخصيات التي اقتبستها من المجتمع؟
- ما هو مفهوم الثورة؟ نحن كنتاج للثورات العربية او قارئين لها، نعرف أنّها اعتلاء فئة لسدة الحكم. هذه الفئة تحمل ثقافة السلطة السابقة نفسها، وبالتالي هي اعادة صياغة للسلطة السابقة لا يتغير فيها سوى شعارات تمجد القادم.
نص روايتي يتحرك في أفقه الطبيعي، ووفق ثقافته. والرافضون لشخصية السوادي رافضون طبيعيون لأي استبداد. وأتصور ان الفن لا يحتاج للصراخ الايديولوجي ليحقق فنيته: فكلما كان العمل عفوياً كلما اخترق أزمنة مقبلة. والرواية نفسها عبرت كالموت الذي تحمله. ربما لم تكن محظوظة بما يكفل لها الانتشار الواسع، لأن تسلط عليها الاضواء فيظهر عالمها المكتظ الذي لا يقبل بمثل هذا التطريز الذي كتبت في الاساس من اجل الخروج من مأزقه.
قلت في احدى لقاءاتك بعد ظهور روايتك "الموت يمر من هنا" انها تجلسك مع كبار كتّاب العالم العربي، ألا زلت عند هذا القول؟
- نعم، لكن حظها التعس، او حظي أنا، أخّر هذا الجلوس، وربما منحني صدمة لأثابر على انتزاع مجلسي بين الكبار.
هل هذا غرور؟
- لو لم ترد كشف هذه الخصلة لما ذكرتني بما قلت، لكنه غرور قلق، يقلقني دائماً ودائماً أشعر أنني ناقص وعليّ ان أعوّض النقص أو أسدّه، ليس قولاً فقط فأنا أعمل ساعات طويلة، وكلما قرأت أعمالاً عظيمة أيقنت ان بمقدوري كتابة أعمال مشابهة. وهذا لا يعني الاقتباس او التشابه، وانما أكتب وفق خصوصيتي، ووفق المكان والزمان، فأكسر هذا الغرور بتجارب تموت في احيان قبل ان تكتمل. وفي أحيان أجلد ذاتي كي تتخلص من غرورها الداخلي، وأكتب ما أؤمن به. والكتابة بإيمان سر العظمة الغائب عن كثير من الكتّاب. ان تكتب نفسك وأن تكون صادقاً مع واقعك من غير ان تبحث عن رداء مستعار.
التاريخ يمجد المنتصر
"مدن تأكل العشب" روايتك الثانية، هل "مرّت" كالموت؟
- "مدن تأكل العشب" كانت أكثر حظاً، فقد وزعت بصورة جيدة ومنحها الكثيرون عطفهم، ومنحوني شرف الاستماع إلى ما يرضي غروري ككاتب.
وهل تبحث عن الإشادة؟
- يا أخي نحن جميعاً نحتاج لكلمة "أحسنْت"! فأي أمر ليس له ما يدلل على جماله، يظل خارج المتعة. وكل الأشياء التي تتقدم تحتاج إلى دفعة من الخلف.
ألا ترى أنك أقحمت الحرب داخل العمل؟
- لا أريد ان أذكرك بأنك تخون اللعبة وتكسر قواعدها، سوف أتجاوز وأقول لك الحرب كانت قماشة خلقية، مجرّد ظلال. وكل المصائب الكبيرة هناك من يكتوى بها، مع انه ليس له ناقة فيها ولا جمل. ان الكوارث العظيمة تطال الناس والحجارة، والتاريخ يكتب الوقائع ويمجد المنتصر، ويوجع المهزوم. أما فتات الحرب، والذين اكتووا بها، فلا أحد يسطر مأساتهم. وتذكرني الآن بجملة وردت في احدى قصصي: "التاريخ لا يتذكر خيول المعركة".
وماذا عن روايتك الجديدة "الأيام لا تخبئ أحداً"؟
- الرواية نشرت في جريدة "عكاظ"، وأعمل بها الرقيب مقصّه كثيراً. لكنّ عزائي انها ستطبع قريباً من خلال "دار الجمل" التي يشرف عليها الشاعر العراقي خالد المعالي في كولونيا.
هل تحدثنا عنها قليلاً؟
- لو أردت ان أختصرها لكتبتها مقالاً وانتهى الأمر، لنتركها حتى تظهر.
طبعت خمس مجموعات قصصية بدأتها ب "حوار على بوابة الأرض" وصولاً إلى "من يغني في هذا الليل"؟ ألا زلت "غير مبتهج بما حدث"؟
- "ليس هناك ما يبهج" هو عنوان احدى تلك المجموعات القصصية، وهذا العنوان صار متداولاً على ألسنة الأصدقاء. أنا كتبته لكنني مبتهج وأرى ان الحياة فوارة لا تستقر على حال، فنحن مصدر البهجة والاكتئاب.
الكتابة للطفل
خضت أيضاً تجربة الكتابة للطفل من خلال مجموعة "حكايات المداد".
- ممتعة وشيقة ولا زلت أمارس هذه المتعة بين الحين والآخر.
كيف تعاملت كتابياً مع الطفل؟
- تعاملت معه على انه ند، ويجب ان ندخل لهذه التسلية من دون قناعات مسبقة. وتركته يضحك على سذاجة انطلاقاً من بدائية التفكير التي يمكن ان تنمو لتصبح حياة. ولم أطلب منه سوى ان نكون أصدقاء، نشارك قلماً هارباً من حقيبة أحد المهملين مغامراته وهو يروى لنا ما صادفه في رحلته. في احدى القصص أحاول ان أجذبه لطريقي، وفي قصص أخرى أذهب معه الى خصوبة تفكيره، بلغة تقترب كثيراً من الاختزال والشاعرية. لأن العالم الشعري هو أقرب إلى الخصوبة، وأقول الشاعرية لا الشعر، شاعرية الحدث هي التي أقصد.
كيف تنظر إلى الأدب الذي يتوجّه للطفل في العالم العربي؟
- بعض الذين يكتبون للطفل قادم من عصر ماضوي، ويحمل كثيراً من سلبياته وقصوره، وهذا ينعكس على النصوص اسقاطاً وقصوراً. ومثل هؤلاء ينقل السلبيات نفسها للجيل القادم. وليس هناك من هو مؤهل تأهيلاً علمياً لهذه المهمة، ومن قام بالكتابة للطفل انتدب نفسه لهذه المهمة لندرة الكتابة في هذا المجال. كي تكتب للطفل لا بد أن تكون تحت يدك آخر المعلومات على مستوى الدراسات النفسية والسلوكية والتربوية وأساليب التشويق والجذب، وهذه الامور كلها غير متوافرة، وإذا أردت الحصول عليها فستجد انك تطلب المحال، بسبب اهمال مراكز المعلومات او رداءة التواصل البريدي او تقاعس الكاتب. أما ما يكتب للطفل الآن فهو مجرد تفريغ، لن يسعدنا كثيراً.
هل الوصول الى ذهنية الطفل وقناعاته يشكل صعوبة ما؟
- ان ثقافة الطفل اليوم هي ثقافة عالمية، ولم تعد عقليته كما نتخيلها نحن، تلك العقلية التي تربت على نمطية معينة، ساكنة. بل هي عقلية متحركة وقادرة على كشف ألاعيب الكاتب المهزوز، وبالتالي لكي تصل الى قناعته لا بد وأن تنطلق معه من المدهش والمثير بالنسبة إليه، وعليك ألا تفرض قناعتك عليه : فهو صاحب قناعة تربت من خلال المستحدث من أدوات التواصل. الآن أمامك ان تدخل في سباق مع الثقافات الأخرى وتمنحه بعدك الحضاري وتقبل به محاوراً عنيداً، لا يرضيه أسلوبك، وأن تختار الأساليب التي يأنس اليها لكي تمنحه استقلاليته على أقل تقدير.
غياب المكان
هل خامرك شعور ان روايتك الأولى سيكون مصيرها الفشل كغيرها من الروايات التي كانت تجس نبض القارئ السعودي، وغيرها من المبادرات فردية وجديدة؟
- كتبت هذه الرواية خلال سنوات طويلة، وأعدت العمل عليها مراراً. وعندما خرجت كنت راضياً عنها، ولم أكن أسعى لإرضاء أحد. والأعمال الأولى تشقّ طريقها بين الناس، عادةً، بهدوء. لكن هذه الرواية وجدت أصداء من خارج السعودية، وبسبب هذه الأصداء قُرأت في السعودية!
يتهم كتاب القصة في المملكة بغياب المكان عن أعمالهم. كيف تنظر للمكان أنت؟
- ذهب مونتسكيو في كتابه "روح القوانين" الى "ان الأحوال الجوية من حرارة وبرودة وجفاف ورطوبة تؤثر على أعضاء الجسم الانساني من الناحية الفيزيولوجيّة والسيكولوجية والعقلية، وان المجتمعات تتفاوت طبقاً لخصائص الناس التي تتفاوت بدورها تحت تأثير اختلاف الأحوال الجوية". كما ذهب الى "ان الطوبوغرافيا والعادات والتقاليد والاعتقاد والدين كلها أمور تؤثر بدرجات عالية على الفكر السياسي وعلى الأحوال السياسية داخل المجتمعات". عندما قرأت هذه المقولة، وأنا على مقاعد الدراسة، رأيت فيها تفسيراً لأمور كثيرة، وتبريراً لتقاعس بعض المجتمعات عن أداء الدور المناط بها.
وقد عمق أستاذنا هذه الفكرة حينما ضرب أمثلة لتأثير الأحوال الجوية على مجتمعات مختلفة بالمقياس التكنولوجي عن بقية العالم. وفي حياتنا اليومية تأكيد لبعض التقاعس حينما يتعلل أحدنا بحرارة الجو او برودته، لتبرير عدم اتمام عمل ما. والأحوال الجوية تتباين من مكان لآخر وفق التضاريس الخاصة بكل مكان. وبما اننا كائنات محاصرة وقتياً بالزمان والمكان فنحن نقع ضمن اطارين لا فكاك لنا منهما.
واذا تحدثنا عن المكان الروائي، يمكن لكل كاتب الخروج بنظرة شخصية تعنيه ككاتب. فليس هناك قواعد متعارف عليها لتحديد المكان الابداعي او الافتراضي، فهو مكان ليس له ملامح محددة في ذهنية الكاتب، وليس مكاناً شبيهاً بذلمك المكان الموجود في ذهنية المتلقي: ثمة فوارق جوهرية بين المكانين المستقرين في ذهنية كل منهما. فالمكان عند المتلقي مكان واضح المعالم صارم التضاريس والاتجاهات. أما السارد، فيتفلت من هذه الصرامة، إذ يغدو المكان لديه خامة يشكلها وفق الأحداث، وتنعكس عليها نفسيات الشخصيات، فربما يغدو المكان الرائع مكاناً بائساً والعكس. الا ان ذلك يجعل الكاتب والمتلقى يقفان في المكان نفسه، لكنّهما يختلفان في النظرة إلى هذا المكان. فلو وقفت أنا وأنت في شارع قابل - أحد أشهر شوارع جدة - وحولنا الكتابة عنه، فسنضيف على مشاهداتنا الموضوعيّة والذاتيّة، تاريخنا الشخصي في العلاقة مع هذا المكان: لو عشت حادثة سيئة في المكان فتنعكس على تعبيراتك عنه. هذا بصورة عامة.
أما المكان في الاعمال الابداعية السعودية القصة بالتحديد، فنجده مكاناً مفترضاً في أحيان كثيرة، وإن كان يحمل سمات معروفة ومحددة. ويندرج هذا الأمر ضمن حيل الكاتب الساعي إلى التهرّب من حساسية المجتمع الذي يشكّل مادته الخام الأساسية في الكتابة. ربما يكون هذا السبب الواضح مرحلياً.
الرواية السعوديّة اليوم
ما هو واقع الرواية السعوديّة اليوم؟
- بدأت الرواية السعوديّة تدخل دائرة الضوء، وأتوقع اننا في الفترة المقبلة سنشهد روايات عدّة، وسوف تختلط الأوراق كما حدث في بداية الثمانينات حين دخل الساحة من يعرف الركض ومن لا يعرف، وبعد عشرين سنة تخصلت الساحة من المعوقين واستمر من هو قادر على الركض لمسافات طويلة. وهذا ما سوف يحدث بالنسبة إلي الرواية الآن. فهناك اكثر من رواية تطبخ وسوف نشهد أعمالاً كثيرة، فالجيد سيبقى أما من دخل لركوب الموجة فسيغرقه الزمن في مياه النسيان.
كيف وجدت تجربة تركي الحمد وغازي القصيبي في الرواية؟
- أتصور اننا بحاجة الى أعمال أخرى لكي نحكم على تجارب كل منهما. فما كتب كان تنفيساً بينما القيمة الفنية لا زالت غائبة او باهتة، ربما استطاع الدكتور غازي القصيبي ان يجرب في "العصفورية" ولكن هذا التجريب لا يستند إلى تراكم روائي. وبالتالي فنحن ما زلنا ننتظر ما سيقدّمه في أعمال مقبلة. أما بالنسبة إلى الدكتور تركي الحمد، فقد تحدث عن المسكوت عنه، وهذا منح ثلاثيته دفعاً قوياً للانتشار، بينما جاءت "شرق الوادي" أكثر تماسكاً وبحثاً عن جذوة الفن.
هل كان عبدالله الغذامي محقاً حينما اتهم تركي الحمد بالتطفل على فن الرواية؟
- السؤال لا يحمل ما قاله الغذامي حرفياً. وما قاله الغذامي هو رأي خاص وتركي الحمد لم يكن قاصراً وقد فنّد ذلك الرأي، والآراء الأدبية ليست حكماً قضائياً غير قابل للاستئناف.
لم نقف على رأيك بالتحديد؟
- يقول اخواننا المصريون: "لكل فولة كيّال"، والاعجاب بعمل قد يتغيّر من شخص لآخر: ما يعجبني قد لا يعجبك، فكلّنا تلك الفولة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.