يقف حمارٌ جائع وعطش في منتصف المسافة بين كومة قش ودلو ماء، تفترض المفارقة الفلسفية أن جوع الحمار مساوٍ لعطشه، غير أن الحمار يبقى متردداً بين الأكل والشرب، لا يتخذ قرارا باختيار أحدهما، أو تفضيل أحدهما على الآخر، والنتيجة أن يموت الحمار جراء جوعه وعطشه! لأنه لم يستطع اتخاذ قرار عقلاني، بالاختيار بين القش أو الماء، تماماً كما يفعل الكثيرون حينما يترددون عن اتخاذ قرار ما، فلا يطالون بلح الشام ولا عنب اليمن! تنسب هذه المفارقة لفيلسوف القرن الرابع عشر الفرنسي "جان بوريدان"، الذي كان مهتماً بمعرفة دوافع الإنسان وما يحدد خياراته، رغم أنها تمثيل لما أثاره قبله العديد من الفلاسفة في معرض نقاشهم لحقيقة الإرادة البشرية في الاختيار والحرية، حينما يكون الخيار بين أمرين متناقضين، أو حتى متشابهين إلى حد التطابق، ليطلق عليها اسمه "مفارقة بوريدان". ورغم أن "بوريدان" استخدم هذه المفارقة ليميز بواسطتها بين الحمار والإنسان الذي سيختار في النهاية ولو جزافاً ومن دون تردد أحد الخيارين، إلا أن الفيلسوف الهولندي "إسبينوزا" يرى عكس ذلك، وأن موقف الإنسان لن يختلف عن موقف الحمار، وسيموت مثله جوعا وعطشا! يؤيده في ذلك عالم الاجتماع المعاصر "بيري شوارتز"، الذي يرى في كتابه "معضلة الاختيارات" أن الاختيارات الكثيرة التي وفرها لنا التقدم العلمي والتقني لم تزدنا حريةً بل زادتنا عجزاً! مثل ما نواجهه حالياً في تطبيقات توصيل الأطعمة، أو حتى المفاضلة حينما نتبضع المعلبات، إذ تشير نتائج دراسة علمية إلى أن عرض ستة أنواع من أحد المعلبات في متجر، بأن ثلث الزبائن سوف يقفون ليستعرضوا الأنواع، وثلث هؤلاء في النهاية يشترون، أما عند رفع عدد الخيارات إلى 24 نوعاً من المعلب نفسه، فإن نسبة 60 % منهم سوف يقفون لاستعراض الأنواع، بينما 3 % منهم فقط يشترون! المشكلة أنه كلما زاد نطاق الخيارات كلما ارتفع مستوى التوقعات، وبالتالي ارتفع مستوى الإحباط النفسي بعد الوصول إلى الخيار غير المناسب من وجهة نظرنا، ولك أن تتصور سلسلة الضغط النفسي التي تسببها الخيارات المتاحة أمامنا يومياً، ثم خيبات الأمل بعد اتخاذ القرار. بالتأكيد أحد أهم أسباب الحيرة هي عدم بذلنا المجهود في جمع المعلومات وتحليلها، وفي بعض الأحيان الخجل من الاستشارة، ناهيك عن غياب فقه أولويات اتخاذ القرار أو تجاهله. دوماً ما نقع في فخ حمار "بوريدان" من دون أن نستشعر الكلفة! حينما نتردد عن اتخاذ القرار، سواء من أبسط الأمور كاختيار نوع وجبة العشاء، حتى أكثرها أثراً على حياتنا مثل اختيار التخصص الدراسي، والأسوأ أن نستغرق وقتاً طويلاً حتى نختار، مما قد يجعل القرار غير مناسب نظراً لتأخره، ولنتذكر أن عدم اتخاذ القرار غالباً ما يجر عواقب أسوأ بكثير من اتخاذ قرار مهما كان سيئاً.