أحدثت الفلسفة المعاصرة انقلاباً كبيراً في تحديد ماهية الإنسان وقدراته العقلية والمعرفية، حيث اختلفت عن تصورات الفلسفة القديمة بشكل أبعادها ونطاقاتها الفلسفية الأفلاطونية، فكان العقل البشري هو محور هذه الجدليات القائمة، وأن ما يحدث من اضطراب يعود إلى تبديل وظيفة العقل، فالإنسان هو (الحيوان العاقل) وهو ما ذهب إليه أرسطو ووظيفته هي أن يعقل الأمور ما يعني أن إنسانيته لا تتحقق بدون الاتصال بالمجتمعات والنهل من روافدها الثقافية والحضارية فيا ترى ما مدى صواب هذا الرأي في الوقت المعاصر؟ وكيف لنا أن نوظف هذا العمق الفلسفي في قصة (حيّ بن يقظان )؟! ابتدع خيال فيلسوفنا العربي الأندلسي ابن الطفيل قصته الشهيرة المعروفة (حيّ بن يقظان) عن ذلك الطفل البشري الذي ترك وحيداً في تابوت أُلقي في البحر، وصادف أن مرت بالمكان الذي استقر فيه التابوت ظبية تبحث عن ابنها المفقود فسمعت بكاء الطفل فأخذته وحضنته وأرضعته حتى سن السابعة، وتتوالى الأحداث للنهاية. وتعددت سيناريوهات الإخراج والتقليد في سرد قصة الطفل الأسطوري بين الظباء والذئاب ومكان الميلاد كالهند مثلاً، وبذلك تعد قصة حيّ بن يقظان من أكثر القصص الرمزية الفلسفية للإنسان ومدى علاقتها بالكون والدين، وتثير في مضمونها قضية العقل البشري في ثلاث محاور هامة تقودنا نحو استفسارات متعددة لماهية هذا العقل، وتسقطنا في تساؤلات فلسفية هل الإنسان بمفرده قادر للارتقاء لمستوى الإنسان الكامل بدون تعليم؟ وهل هناك توافق بين الدين والفلسفة؟ وهل يستطيع الإنسان الوصول إلى الحقائق المطلقة؟ وبرغم الدراسات والأبحاث التي كتبت عن حيّ بن يقظان إلا إنه يجدر بنا الإشادة والوقوف ولو بشكل خاطف على دراستين هامتين إحداهما للدكتور علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري)، والأخرى للأديبة الراحلة رضوى عاشور في كتابها (صيادو الذاكرة في النقد التطبيقي). أكد الوردي على خطأ ابن الطفيل الذي اعتبر العقل البشري جهازا فطريا ينمو من تلقاء نفسه فلا حاجة به إلى التدريس والتلقين وفي بعده عن سخافات المجتمعات يصبح أسلم وأصح استنتاجاً بقوله: «إن أي إنسان لا ينمو عقله إلا في حدود القالب الذي يصنعه المجتمع له، ومن الظلم أن نطالب إنساناً عاش بين البدائيين مثلاً أن ينتج لنا فلسفة معقدة كفلسفة برجسون أو رياضيات عالية كأينشتاين». وبصيغته الأنثروبولوجيا صرح بما لا يدعو للشك بأنه من الظلم الاعتقاد بأن العقل البشري مرآة الحقيقة، وأن من مزايا هذا العصر أن الحقيقة المطلقة فقدت قيمتها أمام سلطان النسبية. وتقدم لنا رضوى عاشور رؤية مختلفة عن حيّ بن يقظان تفسر العلاقة بين الأدب والأيديولوجيا تستخلصها في صورة الإنسان المنعزل على الجزيرة، وهذه العزلة اختيارية تمليها ضرورة أيديولوجية، وتشير لقدرة الإنسان على الوصول إلى المعرفة بمختلف أنواعها دون الإرشاد الديني ولا تقدم رضوى عاشور (حياً) على أنه صورة رمزية للإنسان، بل قدمته على أنه صورة رمزية للعالم الفيلسوف المتصوف، وأنه شخصية خارج نطاق التاريخ والرواية سواء اتسعت لتشمل نسيج المجتمع أو ضاقت في وعيه بعلاقات اجتماعية في سياق زمني معين. ومما لا شك فيه أن قصة حيّ بن يقظان تعد من كلاسيكيات الأدب العربي القديم، ذات مضامين فلسفية عميقة كان لها الأثر الكبير في الأدب العربي والأوربي، فقد أراد ابن الطفيل التأكيد على المعرفة العقلية وأثر العزلة في خلق الاكتشافات الجديدة في أنفسنا ووعينا بذواتنا، والوصول إلى أعلى درجات الإدراك الإنساني للعقل البشري.