وقت دراستي للدكتوراه في جامعة واسيدا في اليابان، كان لدي زميل اسمه (فوجيتا توكوؤو) يدير شركة يابانية عدد موظفيها يتجاوز الألف. كان فوجيتا يؤمن بأن القائد الذي يعزل نفسه لا يمكن أن ينجح وهو غير مطلع على التحديات التي تواجه موظفيه في الخطوط الأمامية. ولقناعته بأهمية التواصل المستمر بين الرئيس التنفيذي أو القائد مع فريقه مهما كان عددهم، صمم نظاماً يتيح للموظف يومياً إرسال مقترح أو فكرة لمدير الشركة بحيث لا يتجاوز ثلاثة أسطر. ولضمان الاطلاع على الآراء قام باستحداث نظام للفرز اليومي للأفكار التي يقدمها الموظفون واختيار الأفضل منها ليطلع عليها ويتبنى تنفيذ وتحقيق الأفضل منها. ووثق فوجيتا هذه التجربة الفريدة في كتابه :(الشركات تتغير بثلاثة أسطر: الإدارة بين التغيير والتنفيذ). ومن أجمل ما أورده في كتابه أن التغيير والتحسين المستمرين لا مفر منهما إذا أرادت الشركة البقاء والمنافسة في السوق. ولعل من أهم ما يميز هذا الفلسفة الإدارية هو مشاركة جميع موظفي الشركة في التفكير الإبداعي وقيادة التغيير لصناعة الأثر الإيجابي.. وبالمقابل فننتقل لقصة خيالية تروي أن فناناً رسم لوحة وكان مقتنعاً أنها تحفة من الإبداع الذي لا يضاهى. ولشدة ثقته من مستوى فنه العالي قرر أن يتحدى بها سكان مدينته فوضعها في ساحة عامة وكتب العبارة التالية: "من لديه أي انتقاد أو يرى موضع خلل ولو بسيطاً في هذه اللوحة فليضع إشارة حمراء على ذلك الموضع!". وبعد مرور ساعات رجع الرسام ليصدم بلوحته تنالها انتقادات الجمهور وتغطيها الإشارات الحمراء فوق كل موضع حتى إنها طمست اللوحة تماماً. مع هول الصدمة ذهب الرسام إلى معلمه ليخبره عن رغبته في اعتزال الفن. ولكن معلمه الحكيم طلب منه القيام بمهمة واحدة قبل أن يعتزل الفن. كانت تلك المهمة هي أن يرسم نفس اللوحة مجدداً ويضعها في نفس الساحة العامة مع تغيير المكتوبة إلى:"من لديه أي انتقاد أو يرى موضع خلل ولو بسيطاً في هذه اللوحة فليمسك الريشة والقلم ويعدلها". ووضع جوار اللوحة ريشة وألواناً. وبعد مرور ساعات لم يقترب أحد من اللوحة. واستمرت الحال كما هي رغم مرور أيام ولم يجرؤ أحد على الاقتراب. وهنا علق المعلم الحكيم قائلاً: "كثير من الناس يستطيع أن يرى العيوب في كل شيء، ولكن من النادر أن تجد المصلحين. وللأسف فهذه هي الحال من حولنا، حيث نرى المشكلات ونتفنن في توجيه الانتقادات ولكن لا أحد يستطيع التفكير بالحلول أو تقديمها". وقد تكون من الأمور الجميلة التي تعلمتها من العمل في الشركات اليابانية أن لا يتم رفع مشكلة إلى المدير إلا وقد تم حلها، أو مع الحلول المقترحة وما سيترتب عليها بغرض أخذ الموافقات المطلوبة. مثل هذه الثقافة تزرع الثقة والمسؤولية في الفريق وتحول الموظف من خانة التنظير والانتقاد إلى التنفيذ والمساهمة البناءة والفعالة في إيجاد وصناعة الحلول وعدم الاكتفاء بانتظار التوجيهات من الإدارة. وباختصار، الكل يستطيع أن يبدع ويتفنن في الانتقاد وتوجيه الاتهامات، ولكن وحدهم الناجحون والمنظمات الناجحة هي التي تركز على الابتكار والإنجاز والتحسين المستمر. وصدق من قال: "أن توقد شمعة واحدة خير لك من أن تضيع عمرك وأنت تشتكي من الظلام!".