حين الكاتبُ المكرَّس يتعامل مع اللغة، يقاربها باحترام، يختار مفرداتِها باحترام، غايةً في ذاتها، فيما سواه يقاربها وسيلةً جامدة للتعبير فيتعامل معها كيفما اتفق، مستعبِدًا أَيَّ مفردات منها توصله إِلى غايته تعبيرًا وإِيصالًا. اللغة كائنةٌ حيةٌ تنبض بالجمال، فلا أَقلَّ من أَن نخاصرها بحنانٍ كما نعانق العطر أَو كما ندلِّل الوردة. كلُّ مفرَدة في اللغة لها حياتُها الخاصة، فلا تجوز الاستهانة بأَيِّ مفردة ما سوى لتُوصلنا إِلى تبليغ الفكرة. من هنا نبدأ: انتقاءُ الأَفضل من الكلمات، غايةً في انتقائها نابضةً لا في استخدامها مجرَّد وسيلة. ومن هنا نتأَنّى في اختيار الكلمة التي تناسب المضمون إِنما أَيضًا تليق بالمضمون، فما كل كلمة يصُح أَن تَرِد في أَيِّ مضمون. والقارئ يشعر. يحس أَن هذا النص لمَّاع ساطع أَو ذاك عادي بارد. والسر؟ سلاسة نصٍّ كاتبُهُ يتأَنَّى ويتأَنَّق في اختيار كلماته. ما كلُّ كلمة من القاموس يمكن إِدراجها كيفما اتفق في عبارة توصل معناها، صحيح، إِنما سرعان ما تذبل كما زهرة في إِناء بلا ماء. بلى: للكتابة - شعرًا ونثرًا - هندسةٌ خاصة في رصف الكلمات، كرصف الجواهريِّ حبوبَ اللؤلؤ أَو كرصف العطار عيِّنات العطر. هكذا يتميز كاتب عن آخر بين قرائه، الكاتب، شاعرًا كان أَو ناثرًا، هو عرَّاف شعبه ومثال قرائه، أَو لا، فهو ثرثارُ نثْر ونظَّامُ شعر، لا حياة لقصيدة هذا لا لنثيرة ذاك. ما المعيار؟ البلاغة. بلاغة الإِيجاز لا بلادة الإِطناب. ما الأَصعب، الأَدقُّ، الأَفعل؟ البلاغة أَصعب، لأَنها تشذيب النافل من الكلمات كي تبقى الأَجملَ سُطوعًا، كسيدة ذوَّاقة تُشذِّب في حديقتها الأَشواك من أَعناق الورد كي تتغاوى الوردة أَكثر بأَرَجها النضر. هكذا الأَدب: نصوص ثرثارة تختنق بغبار كلمات، بتشذيبها يتأَنَّق النص أَكثر، يتأَلَّق أَجمل، يُضيْء أَبهى، فتمَّحي منه كل نافلة لا مكان بها في زهوة المرآة، وتُشرق منه الجملة المُصاغة بأَناقة، وتتلألأ النصوص بأَغاريد المعاني تحملها جواهر الكلمات، الدأْب يميّز الكاتب المغاير، والتسرُّع يوقعه في رتابة العادي فيسقط في غبار نصوصه. بلى، أُكرر: ما كل كلمة تصلح في أَيّ عبارة، ولا كل معنى يبلغ قصاراه إِن حملَتْه أَيُّ عبارة. على الكاتب أَن يصعُب في نسْج النص فيَسهل على قارئه تذوُّق نصه. أُكرر بعد: اللغة كائنة حية تنبض بالجمال، فلنتجنَّبْ منها كلمات بادت، كما تَبيد كائنات بعدم استعمالها، ولنقطفْ لأَدبنا أَنْضَر الكلمات، فنجدِّد النصوص، ونجدِّد اللغة، ونُبقي نابضةً في أَقلامنا مرايا بهيةً لأَدب الحياة.