خاض الشاعر الألماني غوته تجربة حب في شبابه باءت بالفشل، فكّر على إثرها بالانتحار كثيرًا، وضع تحت وسادته خنجرًا، يحاول أن يستجمع إرادته ليغرسه في قلبه، فيفشل كل ليلة، وحين تأكد من عجزه عن الانتحار، قرر أن يكتب قصة الحب الفاشل، وأن يقتل بطلها الحزين، فجاءت روايته العظيمة "آلام فرتر"، التي وإن منَعَت صاحبَها من الانتحار، فقد أصبحت محرّكًا لفيضٍ من الانتحارات، حتى مُنِعت من التداول في إيطاليا وألمانيا والدنمارك بعد أن وُجِدت بالقرب من أشخاص منتحرين. قراءة نتاج الشاعر بعد هذه الرواية بعيدًا عن قصة تأليفها قد يُصعّب الحصول على تفسير منطقي لهذا النتاج، وملاحظة التغيرات التي طرأت على نمط تفكيره من اليأس تجاه الحياة إلى مزيج من الأبيقورية والرواقية الداعي إلى الاستماع في اللحظة وتناسي ما سواها، لن يكون تفسيرها صعبًا حينئذ. حاول الفيلسوف الفرنسي بيير أدو في كتابه المترجم حديثًا على يد وليد السويركي استخلاص فن عيش وطريقة حياة غوته، من خلال دراسة أعماله وسيرته، معنونًا الكتاب بما يوصي به غوته "لا تنس أن تعيش"، ومع أن بيير أدو لم يتطرق إلى محاولة انتحار غوته وأثرها في صياغة قواعد حياته، فسبب ذلك برأيي استنادُه إلى مفهوم "التمرينات الروحية" المستمدة من الفلسفات القديمة، فلم يكن همّه دراسة تطور فكر غوته بشكل خاص، بقدر ما كان مهمومًا بتأكيد نظرته للفلسفة التي يرى أن غايتها ليست تقديمَ نسق مفاهيمي لتفسير العالم، بل إحداث تغيير جذري في طريقة نظر الفرد للعالم وطريقته في الوجود، من خلال سلسلة من التمرينات الروحية. لنعود إلى الكتاب وإلى العيش الذي يُحذّرنا غوته من نسيانه، كيف للمرء أن ينسى أنه يعيش وهو يعيش فعلًا؟ هنا تكمن المفارقة التي يسعى إلى لفت انتباهنا لها، فالعيش عنده ليس الشهيق والزفير الذي نستغرقه طوال يومنا، بل له مفهوم الفعل والواجب الذي يتحتم على المرء أن يقوم به، أعاد غوته صياغة مفتتح إنجيل يوحنا الذي يقول: "في البدء كانت الكلمة"، إلى قوله: "في البدء كان الفعل"؛ ذلك لأن الفعل وحده قادر على الخلق، فالمهم في نظر غوته ليس الكلام، بل التفكير والفعل، فأن تحيا هو عند غوته أن تمارس الفعل في الحاضر. "لا تنس أن تعيش" تعني "لا تنس مهمتكَ اليومية، الفعلَ الذي عليك القيام به خدمةً للبشر، وبكلمة واحدة: واجبك". وإن كانت أيضًا لا تلغي المعنى الذي يتوارد للأذهان بمجرد سماع هذه النصيحة، فالعيش أيضًا الاستمتاع بالحياة، العثور على البهجة في الوجود نفسه. يقول محمود درويش في جداريّته العظيمة: "عِشْ ليومك لا/ لحلمك. كلُّ شيْء زائلٌ./ فاحذَرْ غداً/ عِشِ الحياةَ الآن".