في ذلك اليوم، كان دفء صيفي لطيف يسود الضفاف الألمانية لنهر موزيل الذي يتدفق إلى نهر الراين المهيب في كوبلنتس على بعد ثلاثة آلاف كيلو متر من دمشق. في 19 أغسطس 2020، في هذه المدينة الواقعة في غرب ألمانيا، رأى وسيم مقداد "بريقا في ليل" سورية، لقد كان حتى "بمثابة علاج". أمام المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنتس، روى اللاجئ الشاب البالغ من العمر 36 عاما أعمال التعذيب التي تعرض لها في أحد مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري بعد توقيفه في سبتمبر 2011 في دوما، كبرى مدن الغوطة الشرقية قرب دمشق، حيث كان يريد المشاركة في تظاهرة. كانت موجة الاحتجاجات المطالبة برحيل بشار الأسد في أوجها، لكن المتظاهرين تعرضوا لعمليات اعتقال وقمع وحشي شاملة ومنهجية. في قاعة المحكمة، روى وسيم مقداد بالتفصيل "الاستجوابات" الثلاثة التي خضع لها وهو معصوب العينين مع ضلع مكسور في سجن الخطيب في دمشق. وتذكر الجلد على راحتي قدميه إلى أن بات عاجزا من المشي. وفي إطار أول محاكمة في العالم تتعلق بانتهاكات منسوبة إلى النظام السوري، يقول إن شهادته ساهمت في تضميد جراح رافقته على طريق المنفى في العام 2014، أولا في غازي عنتاب في تركيا، ثم في برلين. ويقول عازف العود المحترف لوكالة فرانس برس "من وجهة نظر شخصية، كان الإدلاء بشهادتي أمام المحكمة أشبه بعلاج نفسي. شعرت أخيرا بأنّه بات لقصتي وألمي معنى وأن سوء المعاملة لم يحصل من أجل لا شيء". ويضيف، "ثمة أمل، ثمة ضوء أشرق وسط هذه الظلمة، هذا هو علاجي النفسي". ووسيم مقداد هو واحد من السوريين المنفيين الذين قصدوا المحاكم الأوروبية حتى لا تمرّ الجرائم الجماعية المرتكبة في سورية دون عقاب. على مدى أربع سنوات، قدم حوالى مئة لاجئ، بدعم من منظمة المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان غير الحكومية في برلين، شكاوى ضد شخصيات سورية بارزة، في ألمانيا والنمسا والنرويج والسويد التي كانت أول بلد يدين جنديا سورياً سابقا بارتكاب جريمة حرب. وفي فرنسا أيضا، هناك تحقيقات جارية. ويقوم سوريون ومنظمات غير حكومية وموظفون في الأممالمتحدة في كل أنحاء أوروبا بجمع شهادات وتحليل صور ومقاطع فيديو وملفات متعلقة بأحد أكثر النزاعات الموثقة في التاريخ. على مواقع التواصل الاجتماعي، يتتبعون بلا هوادة الجلادين الذين تسلل بعضهم إلى أوروبا بين قوافل اللاجئين رغبة منهم في إخفاء ماضيهم المظلم. ويقول ناشطون إن عدد هؤلاء يصل ربما إلى ألف في القارة. ورغم أنه رقم يستحيل التحقق منه، يبرز بين صفوفهم، بحسب المعارضة النمسوية، الجنرال السابق في أمن الدولة في الرقة خالد الحلبي الذي منحته فيينا حق اللجوء. في العام الماضي، أوقف محققون ألمان أيضا طبيباً سورياً كان يعمل في منتجع صحي قرب فرانكفورت. ويشتبه في قيامه بتعذيب الجرحى في مستشفى عسكري في حمص. وقد تعرّف عليه رسميا اثنان من أقارب إحدى ضحاياه استقرا أيضا في أوروبا. في ألمانيا تحديدا التي تعد موطنا لأكبر عدد من اللاجئين السوريين في أوروبا، كانت الجهود أكثر نجاحا حتى الآن. فقد صدرت عن محكمة كوبلنتس أخيرا إدانة تاريخية لعميل سابق في أجهزة الاستخبارات السورية بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية. وستصدر هذه المحكمة حكما ثانيا نهاية العام ضد أنور رسلان، وهو عقيد سابق في الاستخبارات السورية ويواجه عقوبة السجن مدى الحياة لقتله 58 موقوفا في سجن الخطيب حيث سجن وسيم مقداد. الولاية القضائية العالمية ويستفيد السوريون في مسعاهم هذا من مبدأ "الولاية القضائية العالمية" التي تسمح بمحاكمة أي شخص على أخطر الجرائم المرتكبة في أي مكان في العالم. وهذا هو الخيار الوحيد حاليا لإحالة الجرائم المرتكبة في سورية على المحاكمة، بسبب شلل العدالة الدولية، كما تقول كاثرين مارشي أوهيل، القاضية الفرنسية التي تقود مساعي الأممالمتحدة لمقاضاة مجرمي الحرب في سورية. وتضيف أوهيل من جنيف "يمكن لمجلس الأمن أن يحيل واقعة على المحكمة الجنائية الدولية، وهذا ما حدث في العام 2014، إذ كان هناك اقتراح قرار بهذا المعنى عرقلته روسيا والصين باستخدام حق النقض". في العام 2018، استنادا إلى هذه الولاية القضائية العالمية، أصدرت ألمانيا ثم فرنسا مذكرات توقيف دولية بحق جميل حسن المقرب من بشار الأسد والذي كان حتى العام 2019 مدير مخابرات القوات الجوية. كذلك، اتخذت باريس إجراءات قانونية بحق رئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك. لكن بالنسبة إلى المحامي باتريك كروكر الذي يمثل الجهات المدنية في كوبلنتس، فإن العديد من الدول الأوروبية ما زالت مترددة في العمل بموجب الولاية القضائية العالمية خوفا من شكاوى "ذات دوافع سياسية". بالنسبة إلى وسيم مقداد، بدأ كل شيء خلال حفلة شواء في صيف العام 2019 في غورليتزر بارك في برلين. التقى هناك المحامية الدمشقية جمانة سيف، التي كانت تتولى شكوى في قضايا اغتصاب واعتداءات جنسية في السجون السورية. فسألته إن كان مستعدا للشهادة ضد أنور رسلان الذي كان أوقف للتو في ألمانيا؟ فكانت إجابته "بالطبع!"، بعد أسابيع قليلة، استمعت الشرطة الألمانية إليه. لكن لا يجرؤ كل الضحايا على سرد قصصهم. إذ يخشى كثير منهم تعريض أحبائهم الذين بقوا في سورية للخطر. بينما لا يريد آخرون محاصرون في مآسيهم، إعادة فتح الجراح. ومن أجل مقابلة أشهر "صيادي الجلادين" في برلين، لا بدّ من زيارة مكتب متواضع في مصنع مشروبات سابق يعود إلى القرن التاسع عشر، تنبعث من المكان رائحة تبغ قوية من السيجارة الإلكترونية لأنور البني. سجن المحامي أنور البني خمس سنوات في سورية، ويعرف جيدا أنور رسلان الذي اعتقله في دمشق عام 2006. بعد حوالى عقد، التقى وجها لوجه معه في.. برلين أمام مركز لاستقبال طالبي اللجوء. ويتذكر الرجل البالغ من العمر ستين عاما "قلت لنفسي إنني أعرفه، لكن لم أتمكن من تحديد كيف أعرفه"، ثم رآه مرة أخرى في مارس 2015 في أحد المتاجر الكبرى. في غضون ذلك، كان علم من يكون، "لكن في ذلك الوقت، لم تكن لدي أدنى فكرة عما يمكن أن أفعله ضده". في يونيو الماضي، رآه مجددا، لكن هذه المرة كان أنور رسلان في قفص الاتهام واستمع لأنور البني كشاهد.