لقد ألقت جائحة كورونا بظلالها على العالم بأسره منذ مطلع العام المنصرم، وفرضت معها متغيرات سريعة حتّمت على الدول سرعة الاستجابة لهذه المتغيرات ومجابهة آثارها وتداعياتها وتكاتفت الجهود لحل المعضلات وتدارك النتائج أولا بأول، وكان التعليم إلى جانب الصحة العامة من أبرزها وأكثرها أولوية، لكن السؤال: هل التعليم عن بعد وليد لحظه؟ لقد كان التعليم عن بعد موجوداً على مدار العقدين الأخيرين جنبا إلى جنب مع التعليم المنتظم وإن كان بشكل غير ملحوظ في التعليم المدرسي وشيوعه بشكل أكبر في التعليم الجامعي من خلال استخدام التقنيات الرقمية ومختبرات الحاسوب ووجود مقررات جامعية خاصة بالحاسب الآلي، ولم يكن التعلم عن بعد في حينه متطلبا إجباريا أو خيارا أوحد للتعليم. ومنذ الثامن من آذار من هذا العام أعلنت بلادنا عن حزمة من الإجراءات التي تهدف في مجملها إلى حماية المواطن السعودي والمجتمع من تداعيات الجائحة، ومن بين هذه القرارات كان تعليق دوام المدارس والجامعات والمراكز التعليمية كإجراء استباقي للوقاية من الجائحة، والتوجه الفوري إلى منصات التعلم عن بعد وتفعيل منظومة المدرسة الافتراضية، الأمر الذي دفع وزارة التعليم للعمل كخلية نحل استجابة لهذا الظرف الطارئ، لتحول في غضون ساعات كافة الاستراتيجيات التدريسية في كافة المؤسسات التعليمية بالتعليم العام والأهلي والجامعي إلى حياة رقمية كاملة، وما كان ذلك الأمر سيكون ممكناً لولا توفر ومتانة البنية التحتية الرقمية الموجودة في المملكة والتي تم العمل عليها منذ ستة عشر عاماً عندما شرعت المملكة في إنشاء برنامج للحكومة الإلكترونية ونتج عنه تطبيق برنامج التعاملات الإلكترونية الحكومية «يسّر». لقد شهد المجتمع السعودي بأسره في السنوات الأخيرة تحولاً رقمياً في جلّ قطاعاته الخدمية، وأصبح استخدام البرامج والتطبيقات الإلكترونية والمنصّات الحكومية أساس العمل المؤسسي، حيث وفرت الإدارات الحكومية خدمات إلكترونية ومنصات رقمية للكثير من القطاعات، كخدمات الدفع الإلكتروني وخدمات "أبشر"، وخدمات "صحتي" المتعلقة بالشؤون الصحية والمرضى، وخدمات "نزاهة" لمتابعة قضايا الخلل والفساد؛ بل ولقد قدمت وزارة التعليم من خلال إطلاقها لمنصة «مدرستي» نموذجاً سعودياً يحتذى وبإسلوب تفاعلي حقيقي في قيادة رحلة التعليم عن بعد، تلك المنصة التي تخدم أكثر من (ستة) ملايين طالب وطالبة وأولياء أمورهم، وتغطية جميع المراحل الدراسية من خلال تخصيص قناة خاصة لكل صف دراسي، بل إن هذا الإنجاز لم يغفل أبناءنا الطلبة من ذوي الاحتياجات الخاصة حيث تم تخصيص ثلاث محطات فضائية لطلاب التربية الخاصة، إضافة لحضور لغة الإشارة في منصات التعليم. إن المتأمل في سير العملية التربوية خلال الأشهر القليلة الماضية ليلحظ حجم التطور والتقدم المذهل في استغلال التقنيات الرقمية ووسائل التعلم المرئي والمسموع وتوظيف هذه التقنيات لخدمة الطالب والمعلم على حد سواء، وسيلحظ أيضاً تأثير هذه الوسائل ومساهمتها في جودة التعليم والتي جعلت من الطالب السعودي طالباً إلكترونياً مؤثراً ومتفاعلاً ومواكباً للتطور والتحديث الذي يشهده العالم بشكل يومي. ويبقى السؤال هنا فيما إذا كان التعليم الإلكتروني وتقنياته سيكون خياراً مستقبلياً، وليس مجرد بديل للحالات الاستثنائية والطارئة؟ فإنه من الصعوبة بمكان الإجابة على ذلك دون مراجعة شاملة لمخرجات هذه العملية وقياس الأثر والمواءمة بين سلبياته وإيجابياته وتحويل نقاط الضعف فيه إلى فرص ونقاط قوة وكذلك قياس الرضا الناتج عن تطبيق التعلم عن بعد من طرفي المعادلة التعليمية (الطالب والمعلم). هذه المراجعات للتجربة لا بد وأن تقوم بها مراكز بحثية متخصصة وفق منهجيات علمية ومهنية وتربوية، تقدم توصياتها حول مستقبل التعليم عن بعد وأساليب التطوير والتحديث اللازمين لذلك، سيما وأن هذا النوع من التعليم يحمل في طياته مزاياً كثيرة ومتعددة، ومن أهمها أنه يعد النتيجة الإيجابية للعولمة ولكونه يواكب دائماً التطور العلمي والتكنولوجي الذي يشهده العالم يوما بعد يوم، ويساهم في تحويل المتعلم من مستقبل للمعلومات فقط إلى مشارك وفعال في بناء وتحليل المعلومات، مع ضرورة انتباه القائمين على العملية التربوية لجوانب الإبداع لدى بعض الطلبة وتنمية مواهبهم وحثهم على أن يكونوا شركاء فاعلين في التغلب على أي صعوبات أو معيقات قد تظهر، وتطوير الحلول المناسبة لذلك وذلك استشرافاً لما قد يكون عليه مستقبل التعليم والذي حتما سيكون (تعليماً مدمجاً). أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة المشارك