وُلِد النقد قديماً انطباعياً معتمداً على الذوق الفطري، والانفعال الآني، منذ أن قالت أم جندب الطائية - كما في رواية ابن قتيبة - لامرئ القيس: «علقمة أشعر منك»، ومنذ أن قال النابغة الذبياني - كما في رواية المرزباني - لحسان بن ثابت رضي الله عنه: «أنت شاعر، ولكنك أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك»، هذا إذا سلّمنا بصحة هذه المرويات الأدبية؛ لأن بعضها ما يزال موضع شك، ومثار جدل، غير أنها على كل حال تشير إلى أولية النقد، وبدائيته، وأنه نقد انطباعي مرتبط بالموقف والحدث. لقد شهدت أكثر الأحكام النقدية - منذ تلك العهود إلى يومنا هذا - تفاوتاً في بواعثها، ودوافعها، فاختلفت بحسب مزاج الناقد، وحالته النفسية، ومشاعره المتلونة التي قد يفرضها المقام أحياناً، وتشعلها العواطف أحياناً أخرى، فظلت تلك الأحكام مترنحة ومتأرجحة بين صدق الناقد، ومجاملته، وقسوته، وحدّته، ولينه، وغضبه، ومزاجه عموماً؛ ولهذا نجد في قصة (أم جندب الطائية) - بوصفها من أقدم الأحكام النقدية - بعضاً من البواعث الانفعالية، إذا تأملنا جلياً في بعض المرويات الأدبية التي أشارت إلى أن أم جندب كانت تشعر تجاه امرئ القيس بشيء من الانقباض والكراهية، والسخط والنفور، وأنه كان مفرّكاً فأبغضته. ولهذا يؤكد بعض المعاصرين على أن الحكم النقدي الذي انطلقت منه أم جندب لم يكن منصفاً أو دقيقاً؛ لأنه قد يكون ملطّخاً بشيء من المزاج، والتأثير العاطفي؛ يقول مصطفى صادق الرافعي (1356ه) في كتابه (تاريخ آداب العرب): «وما أرى أم جندب إلا أرادت ما تريد الفارك من بعلها، فقرعت أنفه على حميّة ونخوة، وهي تعلم أنها لا بد مُسرَّحة في زمام هذه الكلمة، وإلا فالبيت الذي توافيا على معناه ليس بموضع تفضيل؛ لأن في قصيدة امرئ القيس ما هو أبلغ في هذه الصنعة من بيت علقمة (...)، ولكن من التمس عيباً وجده..». وعادةً ما يقود هذا المزاج النقدي - إن صح التعبير - إلى رد فعل غاضب أو عاتب؛ ولذلك نقلت لنا بعض مصادر الأدب أن امرأ القيس لم يرضَ بمثل هذا الحكم المغلّف بالهوى تحت تأثير الخصومة، فكان يقول لأم جندب: «ما هو بأشعر مني، ولكنك له وامقة»، ومن هنا فإن الأحكام النقدية التي أصدرتها أم جندب للشاعرين معا (امرؤ القيس - علقمة الفحل) لم تستطع بلوغ الحياد فيهما، بل ربما وقعت تحت جنح العاطفة المتأججة بلهيب الواقع، بصرف النظر عما تميزت به تلك الأحكام من عمق وسبق نقديين. ولو رمنا البحث في أكثر الأحكام النقدية التي يصدرها النقاد اليوم لألفينا في كثير منها (مزاجية)، هذا إذا لم تتوسع إلى حيث التعصب، والتحيز، وربما إلى أبعد من ذلك، إلى حيث التجنّي، والتحامل، والبحث عن المساوئ، والمثالب، كما فعل الصاحب بن عباد في (رسالته في الكشف عن مساوئ شعر المتنبي)، وكما فعل أبو حيان التوحيدي في كتابه (أخلاق الوزيرين، مثالب الوزيرين: الصاحب بن عباد، وابن العميد).