إننا حينما نتأمل عملاً فنياً فنشعر بشيء من التنفيس عن المشاعر، ولكننا نشعر أيضاً بنوع من الإعلاء والعظمة والتسامي، وهنا يكمن الاختلاف الأساسي بين الفن والإحساس العاطفي، فالإحساس العاطفي تنفيس عن المشاعر، ولكنه أيضاً نوع من الارتياح وارتخاء الوجدان.. قد نتعجب من ذلك التأثير السحري الذي يتسرب إلى دواخلنا حينما نتلقى أياً من الأعمال الفنية المستلهمة من التراث الإنساني ولا نعرف كنه هذا التسرب الذي يصل بنا إلى حد المتعة! ذلك أن الإنسان يبحث عن الالتصاق بما يسمى بالموضوع، وهو جذب حقيقي خفي وجداني للاندماج في الموضوع ذاته، ومن هنا نشأت نظرية (الذات والموضوع). فما السعي الإنساني في كل النشاط الإنساني، سوى محاولات لاستعادة جنته المفقودة، المثل - على سبيل المثال - في الولادة ثم الفطام، ثم الخروج من حضن الأم، ثم العمل. وتتوالى درجات السعي الدائم حتى نهاية الحياة. ولذا كان الفن هو أحد هذه الأعمال إمتاعا لأنه محالة لإعادة تصوير الواقع؛ هذه الإعادة (المحاكاة) هي إعادة الزمن إلى الوراء وكأنه يعود بالفرد المتلقي إلى درجات زمنية تحقق له تلك المحاولات لاستعادته، المضي نحو الماضي الذي يشكل له نوعا من البعد النفسي الموضوعي الساعي نحو ما فقده في مراحل تطوره منذ ولادته. ولذا فإن الحكايات والأساطير البديعة ستبقى آثاراً خالدة وفريدة وتشهد على ذاك العصر، يوم كان الوعي البشري يشعر أنه في تداخل سيال وفي وحدة بهيجة مع الطبيعة، فوقتذاك، ببساطة ودون عناء أو عذاب كان الوعي يخضع العالم لروحيته المستفيضة التي لم تستطع في البدايات أن تكون محددة ومحدودة، بل كانت كأنها تلعب وتتمتع ببراءتها بسلطة على الأشياء غير مثقلة نفسها بردود الفعل حول مدى التوافق بين تصوراتها والأشياء الحقيقية فكل الأفعال التي تتم بصورة تلقائية عفوية وفطرية ليست إلا بحثاً غير مقصود عن كمال الصورة واتساق النسق الداخلي للإنسان وإيقاعه مع الحياة مما يحدث له المتعة. ومما لا شك فيه أن لهذه المتعة رافدا آخر، وهو رافد المعرفة، فالمعرفة لا تزال الهدف الأساسي للإنسان وهي رغبة خالدة وفطرية لديه، فرقصة الصيد على سبيل المثال "هي في مكان يتوسط المعرفة والنشاط المادي العلمي، فهو يتعزز بينهما، إنه رمز وتجسيد لوحدتها، ويختلف عن الحدث لواقعي في غياب المادة الحقيقة أي غياب المضمون، بل غياب النتيجة الفعلية". فالعمل أو النشاط في الفعل التركيبي يغدو متعة، ومصدر هذه المتعة يكمن في حرية التحكم في مادة العمل وفي ظروفه، وفي مادة العمل، فتظهر المعرفة". يقول هربرت ريد في كتابه معنى الفن: "إن المعرفة وما في وعينا من معتقدات وأفكار وتصورات ليست غاية وإنما هي وسيلة، مادة يتكون بواسطتها الفعل بوصفه بنية نموذجية محددة، بالتالي فالإنسان هنا يتلقى المتعة في النشاط التشكيلي هذا النشاط الذي يكمن مضمونه في ذاته". وقد مارس الإنسان القديم طقوسه وفنونه وأعماله بمتعة فائقة رغبة داخلية منه في التواصل مع العالم وإرساء جسر المعرفة ثم المتعة بينه وبين العالم بغرائزه الفطرية التي صنفها أدموند هولمز بغرائز ست قابلة للتعليم. 1 - غريزة التواصل، الرغبة في التكلم والإصغاء. 2 - الغريزة الدرامية، وهي الرغبه في التمثيل (غرائز وجدانية وعاطفية). 3 - الغريزة الفنية، الرغبة في الرسم والتصوير (الدهان) والتشكيل. 4 - الغريزة الموسيقية، الرغبة في الرقص والغناء (الغرائز الجمالية). 5 – غريزة الاستطلاصع، الرغبة في معرفة سبب الأشياء. 6 - الغريزة الإنسانية، الرغبة في صنع الأشياء غرائز علمية. وبهذه الغرائز الست التي ذكرها هولمز استطاع الإنسان أن يحاول صياغة عالمه، ولكن الدعامة الكبرى التي كان يعتمد عليها كان الإحساس، فبالإحساس والتعاطف والانفعال صاغ تاريخه الذي ورثته البشرية من بعده "فإن كلمة التعاطف تعني الإحساس فإننا حين نشعر بالتعاطف مع الإنسان المخزون فينا، فإننا نزج بأنفسنا، داخل إطار هذا العمل الفني وستحدد مشاعرنا تبعاً لما سنجده هناك وتبعاً للمكان الذي نحتله، وليس من الضروري أن تكون هذه التجربة مرتبطة بملاحظاتنا للأعمال الفنية، فمن الطبيعي أننا نستطيع أن نزج إحساسنا في أي شيء نلاحظه ولكننا حينما نعمم القضية بهذا الشكل لا يكون هناك سوي تمييز ضئيل بين تسرب الانفعال والتعاطف". من هذه الإحلالية والاندماج الذي يسلكه الفنان الإنسان ما هي إلا ذوبان في ذوات الأشياء للخروج منها بما يسميه علماء النفس بالمتعة والتي قد تحدث صدى في نفس هذا الإنسان للتجسيد والوصول إلي محسوسات بدلاً من الملموسات. فالعمل الفني هو بمعنى تحرير الشخصية، إذ تكون مشاعرنا بصورة طبيعية مكبوتة مضغوطة؛ ولذلك يقول غيورغي غاتشف في كتابه الوعي والفن "إننا حينما نتأمل عملاً فنياً فنشعر بشيء من التنفيس عن المشاعر ولكننا نشعر أيضاً بنوع من الإعلاء والعظمة والتسامي، وهنا يكمن الاختلاف الأساسي بين الفن والإحساس العاطفي، فالإحساس العاطفي تنفيس عن المشاعر، ولكنه أيضاً نوع من الارتياح وارتخاء الوجدان". ولذا نستطيع القول: إن الفنون جميعها هي إعادة تجسيد لواقع منصرم تغرم النفس بالاندماج والعودة له كونه ماضيا لا يستطيع استرجاعه، وبهذا يكون إحدى طرائق التنفيس، كما ذكر هربرت ريد في كتابه التربية عن طريق الفن بقوله: إنه تنفيس عن المشاعر، ولكنه تنفيس منشط مثير، فالفن هو علم اقتصاد الوجدان إنه الوجدان متخذاً شكلاً جميلاً، ولذلك نستطيع أن نطلق عليه (السحر المشروع).