كنت ضمن نخبة من أعضاء مجلس الشورى القدامى يلتقون في رحلة شتوية سنوية إلى ربع من ربوع بلادنا الحبيبة بهدف الترويح والاستكشاف، وهو ما دأبوا عليه كل عام، وكانت آفاق ومرابع رحلة هذا العام هي أرض الفل والكادي جازان وفَرَسان، باشرناها يوم الثلاثاء الماضي، وقضينا اليوم الأول منها في مدينة جازان حيث زرنا أمير المنطقة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن ناصر بن عبدالعزيز، الذي رحّب بالزيارة، مشيرا إلى مظاهر النهضة والتطور في المنطقة عموما، وقمنا بزيارة بعض المعالم مثل السدّ وبحيرته المتشعّبة الكبيرة، التي عرفنا أن مخزونها المائي يبلغ (51) مليون متر مكعّب، كما زرنا السوق الشعبي الأنيق بجلساته البديعة، ثم تناولنا غداءنا المكون من أنواع شتى من أسماك فرسان. وفي اليوم الثاني انتقلنا إلى فرسان التي تتكون من مجموعة من الجزر يبلغ عددها نحو (100) جزيرة، بين مأهولة وخالية، وأكبرها جزيرة فرسان التي تبلغ مساحتها (109) كيلومتر مربع، وتبعد عن جازان مسافة خمسين كيلومترا، ويبلغ عدد سكانها ما يقارب (40000) نسمة، وتتمتع الجزيرة بشواطئ بلورية خلابة، ذات رمال بيضاء ناصعة، يستطيع الناظر إليها أن يرى ما تحت الماء بوضوح تام حتى ولو كان شعرة دقيقة! وكان انتقالنا إلى الجزيرة بواسطة عبّارة كبيرة حديثة تتسع لمئات المسافرين، وفرتها الدولة لنقل سكان الجزيرة منها وإليها مجانا، هم وسياراتهم وأمتعتهم، الأمر الذي يُستبعد أن توفره دولة غيرها، وتزخر الجزيرة بالعديد من الآثار أبرزها القلعة البرتغالية، ومباني غرين، ومسجد النجدي، ووادي مطر، ومنزل الرفاعي، وبيت الجرمل (تحريف الجرمن أي الألمان) وقلعة لقمان، وبعد الوصول ذهبنا مباشرة لزيارة محمية الغزلان، حيث شاهدنا بعضها يتجول بين الأشجار في اطمئنان وسكينة، ثم زرنا قرية القصار التاريخية، وبعض بيوت من سكنوها، التي ما زالت تحوي آثارهم وممتلكاتهم كما تركوها، أما نشاط اليوم التالي فقد بدأناه بركوب البحر في القوارب المعدة لنا لقضاء سحابة اليوم، حيث توقفنا عند جزيرة (قماح) وتجولنا بين عدد من الجزر وشواطئها الخلابة ومياهها الغنية بالشعب المرجانية، وأشجار المنجروف الكثيفة التي تعيش وتنمو على ضفاف المياه المالحة، وحين أخبرَنا ربان المركب أن الأسماك وافرة وأنه يحمل أدوات الصيد، طلبنا منه التوقف، حيث شمّر الجميع عن سواعدهم وبدأت المنافسة.. أينا سيصيد عددا أكبر، وبالفعل لم يبقَ منا من خرج خالي الوفاض، وكان من أجمل المشاهد في البحر مجموعات من الدلافين التي أخذت تتقافز بجوار المركب وكأنها تسابقها، في مشهد يشابه ما يعرض على شاشات التلفاز لعروض الترفيه العالمية، وبعد ذلك استقر بنا المقام على أحد الشواطئ الحالمة التي تراءت لنا وكأنها لم تطأها قدم بشر من قبل، حيث نزلنا وارتحنا، ومارس بعضنا هوايته في السباحة، ثم تناولنا غداءنا الحافل بما لذ وطاب من أنواع الأسماك، وفي اليوم التالي (الجمعة) قمنا صباحا بجولة في القلعة التاريخية، وشاطئ حصيص، حيث يتجمع سمك الحريد، ثم امتطينا القوارب في نزهة بحرية أخرى بدأناها بمشاهدة غابات الجندل، ويبدو أنه راق لنا ما استمتعنا به بالأمس وهو صيد السمك، ومشاهدة الدلافين، حيث كررنا ذلك، ثم توجهنا إلى أحد الشطآن البلورية حيث استمتعنا بالجلوس والتجول والسباحة وتناول طعام الغداء، وهو من الأسماك ولاشيء هناك أفضل من الأسماك، وفي المساء بعد أن عدنا تجولنا في وسط الجزيرة وقمنا بزيارة لبعض المعالم مثل بيت الرفاعي، الذي شيده أكبر تاجر للؤلؤ في الجزيرة، وهو بناء أثري مزيّن بالنقوش البديعة، لكنه مهدد بالانهيار، والسبب كما قيل لنا إن البناء موقف فيما حوله من بيوت قديمة، وبعدها أدينا صلاة المغرب في جامع إبراهيم النجدي التميمي، من أهالي حوطة بني تميم، الذي بناه قبل مايقارب مئة عام، وهو فريد في البناء، حيث تزينه القباب والنقوش والألوان الجميلة، ثم اختتمنا يومنا بزيارة للأديب والشاعر الكبير إبراهيم مفتاح في بيته ومتحفه الأثري، حيث أمتعنا بمحاضرة أدبية تاريخية عن فرسان وتاريخها وآثارها وما فيها من كنوز، وبنماذج من شعره لا سيما القصيدة التي ألقاها أمام المغفور له سمو الأمير نايف بن عبدالعزيز العام 1398ه والتي أبكت الأمير نايف - رحمه الله -، يقول فيها: فهل لنا ياسموّ الضيف من أملٍ في نظرة نحو مستشفىً يداوينا مريضنا كم تلوّى من تألمه والحل جيزان أو موت على المينا وذكر لنا أنه بعد عودة الأمير إلى الرياض أمر أربعة وزراء بالانتقال فورا إلى فرسان والاستماع إلى مطالب أهلها، واتصل سموه حينها بالشاعر قائلا له: (سمّع الوزراء القصيدة يا إبراهيم)، كما ذكر أن سمو الأمير نايف أمر فور انتهاء زيارته بتوفير ثلاث عبّارات لنقل المواطنين وغيرهم من الجزر وإليها، وبالمناسبة فإن جازان وفرسان تزخران بالعديد من الشعراء، أذكر منهم الشاعر المشهور محمد علي السنوسي، الذي يقول في إحدى قصائده: قالت وساجعة الرّبا تترنّم سحرا وسمّاري جميعا نوّمُ مالي أراك من التفكّر واجما لا تشتكي وجعا ولا تتكلمُ والشاعر محمد بن حمد العقيلي الذي يقول في إحدى قصائده: جازانُ إني من هواك الشاكي أفتنصتين لبلبل غنّاكِ أصغي إلى همسات قلبٍ طامحٍ متوثّب الإلهامِ والإدراكِ بقي أن أذكر أننا في نهاية اليوم عدنا إلى فرسان الجزيرة بقواربنا حامدين لربنا شاكرين لمضيفنا الكريم الدكتور زياد السديري، ولشاعرنا شاعر المناسبات والرحلات اللواء عبدالقادر كمال، الذي خلّد هذه الرحلة في قصيدة جميلة منها: أشرق الحب في المغاني الحسان وتبدّى الجمال في فرسان سألوها عن العبيرِ فقالت زهرةُ الفلِّ موطني عنواني والشكر كذلك لإدارة سلاح الحدود في فرسان، ولمنتسبيها على الأمانة التي يرعون بها فرسان ويحمون بها أرواح مرتادي الجزر والشواطئ، والشكر لكل الزملاء أعضاء الرحلة على حسن الرفقة والمؤانسة، وكذا الشجاعة في صيد الأسماك وخوض عباب البحر، وأخيرا أذكّر بأن الطقس هناك غاية المطلوب في فصل الشتاء، فهو دافئ وممتع، وهي دعوة مخلصة مني لزيارة المنطقة خاصة في هذا الفصل.. والحمد لله أولا وآخرا.