ليست ثمّة مسافة بعيدة بين الألماني فيخته حين يقول «لا شيء في أن (تكون) حرا، أما أن (تصبح) حرا فهو شيء سماوي» ثم يأتي بعده اليوناني نيكوس كازانتزاكيس حين يقول «لا آمل في شيء، لا أخاف من شيء، أنا حر»، وبين ميلاد الرجلين مئة عام تزيد قليلا، غير أن ذاك المتمرد اليوناني ولد متأثرا بكل ما هو ألماني، فهو رغم دراسته في فرنسا إلا أنه مال إلى جيرانهم الألمان حيث برز نيتشه في الجزء الأكبر من حياته وأدبه. في عمله الأهم «زوربا» هناك شخصية متمردة تحرّك البطل «باسيل» وتحمل ثوابت ومتغيرات الراوي كما فعل نيتشه في حقيقة كازانتزاكيس.. هكذا يفعل زوربا، شخص واقعي ومتحرر من القيود والتقاليد الاجتماعية، أمّي لكنه بارع، وفلسفي عميق، علّم صديقه كيف يحب الحياة ولا يخشى الموت. تلك الحالة كانت تضرب في عمالقة القرن التاسع عشر بشكل عام، فقد كانوا ميالين إلى الاعتقاد بأن الجنون ملجأ صالح من تفاهة الواقع اليومي. وتلك ال»زوربا» ليست خيالية وإنما واقعية، لكن السرد تعمّق بها كثيرا في فلسفة مختلفة جعلها تجسد جوهر الحياة بكل مظاهرها، وسماتها الرئيسة هي قوة الحياة التي لا تُقهر والحدس الذي يدفع إلى الأمام، وذلك ما يمكّن زوربا من التغلب على الخمول، وفي الوقت نفسه، يمتلك غريزة عميقة ترشده وتبقيه على اتصال مباشر بجوهر الأشياء. زوربا أكبر من متمرد وأقل من فيلسوف، فهو حين يوجه حديثه إلى صديقه باسيل إنما يقدم دروس الواقعية والحرية، وهو غير مهتم بأي ثقافة أو معرفة يحصدها من كتب، لذلك يرى أن الإجابات التي يبحث عنها، إن وجدت، فإنها لا توجد في الكتب، وإنما في الحياة نفسها، طالما أنه يعيشها بشغف، ودون أن يكون فيها آمال وتوقعات. ذلك التمرد يبدو مغريا للاقتناع به، لولا أنه متحلل من كل قيمة تقريبا، وذلك ليس فعل الإنسان أو سلوكه.. لا يمكنه أن يكون جريئا حتى على الموت الذي يخافه الجميع. لقد ذهب كازانتزاكيس بزوربا إلى أبعد حدود الخيال، إلى عوالم أخرى ليست مثل عوالم «الزن» حيث تأتي المشكلات حينما يعيش أمثال زوربا في عوالمهم. يقول زوربا عن الموت: «تصرف كما لو أن الموت غير موجود، وتصرف مع وضع الموت في الاعتبار في كل لحظة...» ثم يقول «... إنني أنظر إلى الموت كل لحظة ولست خائفا، ومع ذلك فأنا لا أقول أبدا أنني أحب ذلك. لا، لا أحبه على الإطلاق»، وللحقيقة خوفه من الموت هو الذي يجعله يعيش حياته بكل ذلك التمرد والهروب والاندفاع. «زوربا اليوناني» كان عامل منجم يُدعى جورج زوربا، هو الذي أسر كازانتزاكيس وأثار إعجابه، عندما قابله في منجم فحم في بيلوبونيز. ومعه انطلق الكاتب في أحد أهم الأعمال الأدبية العالمية، ورغم أنه كتب الكثير غيرها بما فيها اقترابه من الكوميديا الإلهية لدانتي إلا أن هذا العمل الرائع بقي في ذاكرة العالم ووصل به إلى حافة نوبل قبل أن يخسرها بفارق صوت واحد لصالح ألبير كامو. في كثير من جوانب زوربا شخصية محبة للحياة بأقصى درجات التمرد والانطلاق، مزيج من الماء والنار. قد يبدو ملهما حينا ومخزيا أحيانا أخرى، ولكن تطور السرد يمنح النص تلك الحياة التي تجعل تفاصيل زوربا وباسيل خليطا من كل نزعات الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، الجرأة والخوف، فتصبح الرواية درسا فلسفيا أكثر منها محكية لعامل يملك القليل من الفلسفة وكثيرا من الرغبة في أن يعيش بلا آمال أو توقعات، ما يجعله في المحصلة «متشيئا» ينبغي ألا يغادر حدود الرواية.