تقرير إلى الرسام اليوناني المشهور غريكو «جد» الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس ورد في كتاب «مذكرات كازانتاكيس... تقرير إلى غريكو» الذي ترجمه ممدوح عدوان وصدر في أكثر من طبعة ويُعد أحد أهم كتب كازانتزاكيس. كتبت مقدمة الكتاب زوجة المؤلف، هيلين كازانتزاكيس، وكشفت عن الأجواء التي كتب فيها هذه المذكرات في صيغة تقرير: «كان يطلب من ربه أن يمد في عمره عشر سنوات أخرى يكمل بها عمله، يقول فيها ما كان عليه أن يقول... عشر سنوات تكفي أو هذا ما كان يظنه». يناقش كازانتزاكيس في هذا الكتاب سؤال الكتابة، ويطرح السؤال البديهي الذي يطرحه كل كاتب على نفسه: لماذا أكتب؟ ويخبرنا بوضوح أو يعترف أنه يكتب ليس للبحث عن الجمال، بل لأنه يريد أن يصل إلى الخلاص، حيث قال له أحدهم: «في أعماقك اهتمام عظيم مهلك. إنني أراه في عينيك المحترقتين وفي حاجبيك المرتعشين بلا توقف ويديك اللتين تتلمسان الهواء وكأنك أعمى أو كأن الهواء جسد وأنت تلمسه. انتبه. هذا القلق إما أن يقودك إلى الجنون أو إلى الكمال، بل إلى الخلاص». رغم أن الكاتب أعلن بوضوح في مقدمة كتابه أنه ليس سيرة ذاتية، إلا أنه يعتمد في شكل كبير على تفاصيل حياته، وعلاقته بالكتابة، وعلاقته بالآخر لكنه يراهن أيضاً على التخييل الروائي، حتى أنك لا تفرق بوضوح هل هي سيرة فعلية أم رواية فلسفية والحدود الفاصلة بين الجنسين في هذه الكتابة شبه معدومة؛ كازنتزاكي يصف نفسه أنه خليط من هوميروس ونيتشه وبرجسون وزوربا، فهو الفيلسوف الشاعر والموسيقي. إنه شخصية قلقة حد الوجع؛ تصارع عقلاً لا يهدأ لإنقاذ روحها. لقاء زوربا كان حدثاً مفصلياً في حياة كازنتزاكيس، أشبه بكأس ماء بارد لمسافر في يوم صيفي ساخن، لقَّبَه بالأب الروحي فهو يدين له بالكثير، ويوم تلقَّى نبأ وفاته قرر أن شخصيته يجب أن تعيش أكثر ولهذا قرر الكتابة عنه، وهكذا ولدت رواية «زوربا» بعد مخاض عسير وطويل عاشه كازنتزاكيس. تقول هيلين كازانتزاكيس في المقدمة: «لم يكن من النوع الذي يمكن أن يفرغ، من دون إحساس بالشيخوخة أو التعب؛ في الرابعة والسبعين من عمره، كان يعد نفسه متجدد الشباب». وتشير هيلين إلى أن نيكوس لم يبتغ إنهاء «التقرير إلى غريكو» في الوقت المحدد، إذ لم يكن قادراً على كتابة مسودة ثانية، كما كانت عادته. ويذكر المؤلف أنه أثناء فترة دراسته في باريس، تأثَّر بالفيلسوف والشاعر الألماني نيتشه، الذي غيَّر نظرته، ودعاه إلى التمرد على أفكاره ومعتقداته القديمة كلِّها. حتى نظرته إلى الفنِّ تغيرت، وأدرك أن دور الفن يجب ألا يقتصر على إضفاء صورة جميلة وخيالية على الواقع والحياة، بل إن مهمته الأساسية هي كشف الحقيقة، حتى لو كانت قاسية ومدمِّرة. يخاطب القارئ الافتراضي ويوضح له رؤيته للكتابة، وأنها حفر في الروح: «ستجد أيها القارئ في هذه الصفحات الأثر الأحمر الذي خلَّفته قطرات من دمي، الأثر الذي يشير إلى رحلتي بين الناس والعواطف والأفكار». يكشف الكاتب عن رحلة صعوده إلى جنته المبتغاة/ الكتابة: «كانت هناك أربع درجات حاسمة في صعودي ويحمل كل منها اسماً مقدساً، ورحلتي بين هذه الأرواح العظيمة والأرواح الأخرى، هي ما سوف أحاول جاهداً أن أبين معالمه في هذه اليوميات»، بعد أن أوشكت الشمس على المغيب. إنها رحلة إنسان يحمل قلبه في فمه وهو يصعد جبل مصيره الوعر والقاسي. ف «روحي كلها صرخة. وأعمالي كلها تعقيب على هذه الصرخة». يريد الكاتب أن يتحرر من الموت الذي كان يقترب بعد بلوغ شيخوخته، فكل شيء في سيرته يلتفت إلى الوراء مستدعياً حنيناً إلى الماضي، لرجل عاش الحياة بزخمها الكبير وعركته التجارب والتحولات، وفي الكتاب سيرة حياتية وثقافية باذخة. فيه كشف عن علاقة الإنسان بالزمان، زمان عاشه الكاتب وعايش فيه تجارب وخبرات كثيرة وفريدة «إن الأزمنة التي نمر بها، والأزمنة التي هي أكثر رهبة والتي سيمر بها أبناؤنا وأحفادنا، هي أزمنة صعبة. غير أن الصعوبة كانت دائماً منشطاً للحياة. توقظ دوافعنا وتثيرها كلها، الخيرة منها والشريرة لتجعلنا نتجاوز العراقيل التي تبرز أمامنا في شكلٍ مفاجئ». كذلك يستجلي علاقته بالمكان، قرى ومدن سكنها هو ومن عرفهم، بل أماكن شخصيات الكتابة. كله يحضر من ذاكرة الماضي، ليصور لنا مسيرة كاتب مسكون بالجمال والعشق والموت. الكاتب يحاول أن يثبت الكادر، ويمنح الحياة لكل ما مرَّ بالذاكرة، ويخلق حواراً مع الذات والله والطبيعة. يقبض على اللحظات العادية في ما هو عادي ويومي، مثلما يقبض على المعاني الكبرى والكلية، المعاني الفلسفية. إنه يصور قوة الحياة وصخبها وقوة الطبيعة وصوتها الكامن في تفاصيل الأشياء، إلى جانب ما ضمَّنه من مقتطفات أدبية لأعماله الروائية والشعرية، ليتكشف لنا وجه كازانتزاكيس وقراءته، ونكتشف أيضاً دلائل تأصيل ذات الكاتب في كل ما هو يوناني، ودهشته لعجائب الحياة والشعوب، فنرى الروائي يشدنا بقوة إلى اتجاهات عدة، هو يعبر في تقريره إلى غريكو عما عاشه وشاهده، ووعاه بصدق. ويمثل «تقرير إلى غريكو» عصارة حياة وأفكار ورؤى رجل خاض الغمار في مجالات شتى وتوغل في الأعماق، ففي رأيه أن كل إنسان «عليه أن يحمل صليبه ويصعد جلجلته، كثيرون، يصلون إلى الدرجة الأولى أو الثانية، ثم ينهارون لاهثين في منتصف الرحلة، ولا يصلون إلى ذروة الجلجلة». وجَّه الكاتب مذكراته وتقريره إلى جده الروحي غريكو؛ لأنه القادر على فهمه أكثر من مكافحي الحاضر والماضي كلهم، كونه خلَّف الآثار الحمر ذاتها على الصخور/ الحياة. يرى الكاتب «أننا نأتي من هاوية مظلمة وننتهي إلى مثيلتها، أما المسافة المضيئة بين الهاويتين فنسميها الحياة، لحظة أن تولد تبدأ رحلة الانطلاق والعودة في آن، كل لحظة نموت، لهذا جاهر كثيرون بأن هدف الحياة هو الموت، فما أن نولد حتى تبدأ محاولاتنا في أن نخلق ونبتكر، أن نجعل للمادة حياة، كل لحظة تولد، كما جاهر كثيرون بأن هدف الحياة هو الخلود، في الأجسام الحية الفانية يتصارع هذان التياران، الصاعد نحو التركيب، نحو الحياة، نحو الخلود، الهابط نحو التحلل، نحو المادة، نحو الموت، هذان التياران ينبعان من أغوار الجوهر البدائي، الحياة تفاجئ البدء، تبدو وكأنها خارجة على القانون، كأنها طبيعة مضادة، كأنها رد فعل على الينابيع المظلمة، لكننا نشعر في أعماقنا أن الحياة هي الأخرى فوضى وفوران لا نهائي للكون، وإلا فمن أين تأتي تلك القوة التي تفوق طاقة البشر؟ تلك القوة التي تقذف بها من المغيب إلى الميلاد ثم تشد أزر كفاحنا نباتات وحيوانات وبشراً، هذان التياران كلاهما مقدس». يسهب كازانتزاكيس في وصف (النار والتراب) بومضات سريعة مكثفة عن الأسلاف، يصفهم بأنهم مثل النار والتراب ويتساءل كيف يوفق بين هذين السلفين في داخله، فأجداده من جانب الأب قراصنة متعطشون للدماء، وهم يمثلون (النار) أما (التراب) فهم أجداده عن أمه وكانوا فلاحين طيبين، ينتظرون ما تجود به عليهم السماء والأرض من بركاتهما، ويصف أباه بالوحش البري، يذهب في تعداد صفاته وصرامته المتميزة بشهامة البطل، إذ لم يكن يتحدث أو يضحك إلا نادراً، ويعتبر إظهاره للعواطف أو بوحه بها خيانة للنفس... «كان كالحاً لا يحتمل، كان يلقي التحية بفتور ويجلس في ركنه المعتاد». أما أمه فإنها قديسة، امرأة في طهارة العذراء جميلة الروح، لها صبر الأرض. ويتذكر أنه كان في طفولته يتجرع العالم بشراهة، يتلقاه بمنخريه، ويتمثله ويحوله إلى طفل، يجعل لكل شيء رائحة خاصة، «فعالم الطفولة ليس مصنوعاً من الطين، لكي يبقى، بل من الغيوم. الطفولة بداية اكتشاف وتفهم العالم، وبدقة متناهية يتذكر لقاءه الأول بالبحر والنار والمرأة وبروائح العالم، حيث تتحد هذه العناصر في مخيلته اتحاداً لا انفصام فيه، وتصير واحداً، وهي تشبه وجهاً مفرداً يظل يغير أقنعته، وتأتي المدرسة التي تمثل بداية انخراط الطفل في اعتناق مفردات اللعب والشغب وفك رموز الكلمات، وبداية تهجي المصاعب عبر السبورة وعصا المعلم. ولعل أول الفواجع التي عاشها وخبرها كانت المجزرة التي قام بها الأتراك ضد سكان كريت، كاشفاً وجه الحياة الحقيقي، وراء القناع الجميل للبحر والحقول الخضر، وخبز القمح، وابتسامة الأم.