لم أكن أتصور أن إحدى أهم خصائص التلفزيون كوسيلة إعلام سوف تعود بعد اندثارها وتضعضع منصتها، ولكن هذه المرة لتكون إحدى خصائص الوسيلة المنبثقة من التلفزيون: خدمة "البث التدفقي". كان التلفزيون يتميز بكونه يراكم ذاكرة جماعية لأفراد المجتمع، فالجميع يشاهد ويهتم بما يعرض في قنواته التلفزيونية المتاحة، وتتشكل الذكريات بشكل متوازٍ لدى الأجيال المتعاقبة، فمن الطبيعي أن تجد جيلاً أو جيلين يحملان المشاعر والذكريات نفسها عن برامج ومسلسلات تلفزيونية محددة، وهو ما فُقد خلال السنوات الأخيرة مع تراجع سطوة التلفزيون، لكنه يبدو أن تلك الخاصية سوف تعود مع تصاعد هيمنة منصات "البث التدفقي"، بل يبدو أن أثرها أكبر وأوسع من التأثير على مجتمعات محدودة إلى التأثير على العالم أجمع وعلى ثقافات متباينة. هذا ما حدث مع عرض المسلسل التلفزيوني الجديد لشبكة البث التدفقي "نتفليكس": "مناورة الملكة"، الذي أمسى المسلسل الأعلى مشاهدة في تاريخها خلال فترة قصيرة، إذ حقق 62 مليون مشاهدة خلال أول 28 يوماً فقط من طرحه للعرض في 23 أكتوبر الماضي. وجاء في قائمة أفضل عشرة أعمال في 92 دولة وحصل على المركز الأول في 63 دولة، من بينها المملكة المتحدة والأرجنتين وجنوب إفريقيا! تروي السلسلة المكونة من سبع حلقات فقط القصة التخيلية لمعجزة الشطرنج اليتيمة "بيث هارمون"، التي كافحت إدمان المخدرات وصعدت لتصبح أحد أفضل لاعبي الشطرنج في العالم، وهي مقتبسة عن رواية بالعنوان نفسه للأميركي "والتر تيفس" صدرت العام 1983، والذي استلهم العنوان من إحدى أشهر افتتاحيات لعبة الشطرنج، والرائع في الأمر أنه منذ عرض المسلسل عادت الرواية الأصلية إلى قوائم أكثر الكتب مبيعاً! ليس ذلك فحسب بل ارتفعت عمليات البحث عن رقاع الشطرنج على موقع "إي باي" بنسبة 250 في المئة، كما تضاعف عدد زوار موقع "تعلّم الشطرنج في 24 ساعة" عشر مرات، من 600 إلى ستة آلاف يومياً! حتى إنني قمت بإخراج رقعة الشطرنج من مخبئها وأعدت تذكّر قوانين اللعبة من جديد! والحقيقة أن صناع المسلسل استطاعوا جذب الجمهور لتحفة فنية، برعت في تناول العمق العقلي والفلسفي للعبة الشطرنج، ناهيك عن إتقان نقل بيئة عصر الستينات، من أزياء وديكورات كلاسيكية رغم كثرة المشاهد الخارجية، بالإضافة إلى موسيقى تصويرية رائعة ترفع الحماسة والتشويق في المشاهد الصامتة، واستطاعوا تحويل لعبة يُعتقد أنها مملة وبطيئة إلى مشوّقة وحماسية. هذا النجاح منقطع النظير للمسلسل وأثره على لعبة الشطرنج حول الملايين عبر العالم، يفصح عن فرص ضخمة أمامنا لنشر ثقافتنا وتأكيد قوتنا الناعمة عبر هذه المنصات عابرة القارات؛ كونها تصل بسرعة وسهول إلى المتلقي مهما كانت ثقافته وموقفه، ويسهل قياس أثرها، سواء عبر أرقام المشاهدة أو حتى التأثير على ما يحيط بعالم العمل الفني نفسه.