لا تبدو المسألة الوجودية مرتبطة بالطيف المتواتر من المفكرين الغربيين وحسب، وإنما لذلك جذره الذي ينتهي إلى مداولات تسبق من التصقت بهم الوجودية بصورة حاسمة مثل سارتر وميرلوبونتي وسيمون دي بوفوار وجبريل مارسل، حيث يمكن أن يرجع ذلك إلى فلسفة أرسطو حين تطرق إلى الهيولي التي لم تكن موضوعا معرفيا وإنما مجرد قوة في مقابل الصورة، وذلك يبدو كلاما غامضا ننظر إليه بعدسة الجرجاني حين يفسره بأنه جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال. هذه الهيولي مهمة في المسألة الوجودية لأنها تفض الاشتباك الفلسفي والمعرفي في كل ما جرى بين الفلاسفة السابقين في النطاق الشرقي قبل أن تتحول إلى فلسفة خائبة ووسوسة غرائزية تميل إلى تسطيح العقل والعبث بالذات الإنسانية، وإذا كانت الهيولي ضرورية لبدء فهم الفلسفة الوجودية قبل فلاسفة الغرب المتأخرين السابق ذكرهم فمن الضروري أيضا فهم فلسفة هيدجر وكيركجارد قبل الشروع في استيعاب التوجهات الوجودية لهؤلاء ومن تلاهم. تلك الوجودية العميقة برزت كاتجاه فلسفي ينظر في الإنسان على ما يوجد لا تحليل ماهيته المجردة، ذلك يستدعي إنكار أن يكون الوجود عين الماهية، ويجعله يقتصر على وصف الظواهر النفسية دون انسداد في أفق الطرح الفلسفي لهذا الاتجاه، غير أن ذلك ما حدث لاحقا وأصبح الوجوديون الجدد يميلون إلى الخروج عن المنطق ومقتضياته في فهم الذات وتحولاتها، والعقل ورؤيته إلى الثوابت والمتغيرات بغير ما قام عليه الاتجاه الفلسفي تماما. قبل أن ننظر في سارتر وهيدجر، جرت قبلهما نقاشات عميقة بين ابن سينا وابن رشد والمشائين العرب حول الهيولي ومسألة الإيجاد والوجود (الآنية) غير أنه يمكن تفضيل اتجاهات ابن رشد عندما يرى أن ابن سينا حين يضع أن الوجود حال تعرض للماهية فتكتسب من جرائها الوجود الفعلي فإنما يضمر أن للماهية وجودا سابقا من وجه ما، وذلك هو فحوى مذهب أفلاطون في الكليات. ذات الأمر يقرب الصورة التي كانت بين سارتر حين يقول «إن الوجود سابق على الماهية»، وهيدجر حين يقول «ماهية الإنسان في وجوده»، أي في وجوده في العالم، وهي في عمومها رؤية تتقارب وتتماس مع ما حدث بين ابن رشد وابن سينا، وإن كان غاية ذلك الوصول إلى الأسئلة الإنسانية الكبيرة التي تتعلق بوجودنا الإنساني لا أن ينحرف العقل المحدود إلى تلك الحالة التي تنكر الوجود وواهب الصور، كما يرى ابن سينا. تلك المسألة الوجودية تمثل مدخلا جدليا يحتاج إلى الكثير من القاعدة المعرفية التي لا تنتهي إلى انغلاق في الأفق الفلسفي، فمثل هذا الأمر استغرق كثيرا من طاقة المعتزلة والمشائين ودخل الغزالي برؤية قدم العالم، وللمفارقة تفرع النقاش ليتخذ مدارس واتجاهات كما هو حال المتكلمين (أفلاطون وصحبه) وأرسطو وصحبه المشائين العرب. وعليه فكل ما يؤدي بوجودي إلى إلحاد أو نزعة عبثية وفوضوية إنما ذلك من تيهه وعجزه عن إدراك تلك المسألة التي تختص بتناهي الرأي في قضية أسبقية الوجود والماهية دون أن يفتح ذلك بابا إلى إنكار عقدي أو ديني، فذلك يصبح ساعتها حيلة للتخارج من اليقين والدخول في دوامة من العبث والهروب الفكري إلى الفراغ والعدمية، وتلك حال أشبه في تبسيطها بين أسبقية الدجاجة والبيضة.